الغد 24 خبر الغد تقرأه اليوم

عز الدين بونيت: تكنوقراط متنكّرون؟!!

 
عز الدين بونيت
 
من الأفكار الصامدة في تعليقاتنا السياسية عقب ظهور كل تشكيلة حكومية جديدة، فكرة الوزير التكنوقراطي في مقابل الوزير السياسي، ووزير السيادة في مقابل الوزير... بلا سيادة (؟!).
 
نطلق صفة السياسي باطمئنان على الوزير لمجرد أنه ينتمي إلى تنظيم حزبي، وننزعها عنه إذا لم يكن له مثل هذا الانتماء، وليذهب أرسطو وكل الفلاسفة الذين يؤكدون أن الإنسان حيوان سياسي بطبعه، إلى الجحيم.
 
وهناك من الحزبيين المخلصين من يشترط ألا تطلق صفة السياسي إلا على الوزير الذي يكون قد أفنى عدة أحذية في سبيل الحزب، واحتك بالشعب والتحم معه وعرف دروبه وشعابه. وفي الآونة الأخيرة ظهرت فكرة تكميلية بدت، لمن يستعملها، بليغة بديعة، وهي فكرة أن الوزير الفلاني تمت صباغته بلون الحزب الفلاني، قبل أن يتم إدخاله إلى الفريق الحكومي. وما يُرجى فهمه من هذه الفكرة هو أن أولئك الوزراء المصبوغين، ليسوا أبدا جديرين بصفة السياسيين، مهما حاولوا التستر وراء الأصباغ، وأنهم تكنوقراط لا يعرفون السياسة ولا يفهمون في أحوال الشعب ولا في المقالب والتقديرات السياسية القصيرة والبعيدة المدى. ولذلك فوجودهم في الحكومة غير ملائم، ونجاحاتهم التدبيرية وكفاءاتهم المبرهن عليها في مهامهم السابقة لا قيمة لها ولا تشفع لهم في باب السياسة.
 
لا أعرف بالضبط ما هي السياسة، التي كان ينبغي أن يتقنها التكنوقراط كي نرضى عنهم ونطمئن لقدراتهم. ولا أتذكر ما هي بالضبط منجزات الوزراء السياسيين التي لا تعدلها في النجاعة منجزات أي وزير تكنوقراطي، كي أتبين مرمى هذا الاعتراض الراسخ على التكنوقراطي لحساب السياسي...
 
هل السياسي مثلا هو الذي يتقن فن التسويات؟ هل هو ذلك الذي يضرب أخماسا في أسداس قبل اتخاذ أي قرار، ويراعي غضب الناخبين وترضية الحلفاء ومراكز القوة داخل التحالف الحاكم؟ هل هو ذلك الذي يتبنى التعريف القائل إن السياسة هي فن الممكن، مع ما يعنيه ذلك من تعطيل ما ينبغي إنجازه لأن التوازنات لا تسمح بذلك؟
 
ثم لنتكلم بصراحة. نحن نعرف "خرّوب بلادنا" الحزبي والسياسي. ونعرف البئر وغطاءها على حد تعبير المثل الشعبي المصري، في موضوع السياسيين الحزبيين، ونعرف على الخصوص ضحالتهم السياسية نفسها، وليس التقنية فقط. نعرف خبرتهم المحدودة وعجزهم الكبير عن التواصل مع الجماهير، وعدم قدرتهم على الخطابة ولا على بلورة رؤى سياسية متكاملة. نعرف كل ذلك ونعرف قيمتهم المضافة المنتظرة. من منا سبق له أن قرأ ولو جملة واحدة منشورة لسياسي مكرس يشرح فيها مشروعه السياسي؟ لا أتحدث عن كتاب، ولا عن مقالة، أتحدث عن جملة واحدة.
 
ثم إننا نعرف كيف أن الحياة الحزبية تلفظ كفاءات الأحزاب نفسها، وتسهم في عزوف كفاءات أخرى عن الانشغال بالسياسة في صورتها الضحلة، التي هي عليها الآن. نعرف كل ذلك، ونعرف أن السياسة السياسوية التي طبعت حياتنا السياسية في العقدين الأخيرين، أصبحت هي نفسها عائقا فعليا في وجه كل تحوّل مأمول، نحو ترسيخ الديمقراطية، ونحو التنمية.
 
لكل هذا، لا أرى ما يجعلني أعترض على تلقيح الحياة السياسية بكفاءات لم تستطع الأحزاب تعبئتها من تلقاء نفسها. ولا أرى بأي منطق يحكم على مثل هذا التلقيح بأنه تزييف للمشهد السياسي، وطعن في جدوى الانتخابات. هل هناك قاعدة تقول إن اقتحام الحياة السياسية لابد أن يبدأ من باب الفرع الحزبي؟ ما العيب في أن تربح الأحزاب المحظوظة غير المنغلقة على نفسها، كفاءات ما كان لها أن تحلم بها لو بقيت في منطق الزبونية الحزبية.
 
لا نملك من الوقت ما نضيّعه في وهم جدارة السياسي المتحزب الذي يكون قد قضى كل حياته وهو لم يخرج من حيه ومدينته، ولم يقرأ كتابا واحدا في مشاكل العالم، ولا يميز بين المشكلة وأعراضها.. هذه حقائق ينبغي أن ندمجها في تحليلنا قبل الاعتراض على الكفاءات، التي قضى بعضها في الواقع وقتا طويلا في السياسة على أعلى المستويات.
 
وأخيرا، من أين لنا بكل هذا اليقين الذي يجعلنا نحكم بالفشل على تجربة حكومية لم تبدأ بعد، ولم نسمع حتى ما الذي تنوي هذه الحكومة القيام به لنحلله ونناقشه، ونرى مدى تماسكه وجديته، أو تهافته وضحالته؟