الغد 24 خبر الغد تقرأه اليوم

محمد بنسعيد أيت إيدر.. شيخ الاشتراكيين المغاربة

 
بروفايل: أحمد نشاطي
 

توفي صبيحة هذا اليوم، الثلاثاء 6 فبراير 2024، على الساعة الواحدة بعد منتصف الليل، الزعيم الوطني الكبير والاستثنائي السي محمد بنسعيد أيت إيدر، في المستشفى العسكري في الرباط، عن سن ناهز 99 سنة.
 
الفقيد اليساري الاشتراكي محمد بنسعيد من مواليد سنة 1925، في قرية تيمنصور في شتوكة أيت باها، في ظرفية دقيقة كانت تتميز بتثبيت أركان الاستعمار آنذاك.. وبدأ تعليمه الأولي في الكُتّاب، قبل أن ينتقل من المدارس القرآنية إلى المدارس العتيقة، التي تدرّس النحو واللغة والفقه، ومن ضمن هذه المدارس هناك مدرسة أبو عبد الله، ناحية تيزنيت، بالقرب من الحدود بين  أيت باعمران والمنطقة الفرنسية، وكان يقطنها درقاوة، وكانوا هم والقيمون على تلك المدرسة يرتبطون بعلاقة قرابة مع عائلة المختار السوسي، كما أن صهر المختار السوسي كان من تلك المنطقة، وكانت له زيارات لعائلة أيت إيدر، وهو الذي سيربط الاتصال بين الشاب بنسعيد والفقيه المختار السوسي، ورتّب له الانتقال إلى مراكش سنة 1946...
 
ظل بنسعيد يُوسّع معارفه ويعمّق دراسته باحثا عن معادلة بين أرضية ثقافية سلفية تلقاها في جامعة ابن يوسف في مراكش وبين مرجعية اشتراكية ناهضة
 
هذا الانتقال الجغرافي والدراسي كان حاسما في تكوين شخصية الشاب بنسعيد، في فتح عينيه على قضايا الحداثة والنهضة، وعلى كتب جديدة خارج المناهج التقليدية، وعلى الصحف والإذاعة، وعلى علاقات مع معارف جدد يهتمون بالسياسة، وفي هذه الفترة، وبالخصوص سنة 1947، سيتعرّف على القضية الفلسطينية، التي كانت آنذاك في مقدمة انشغالات الشعب المغربي، التي كان يتعرض لها الإعلام، وكانت تُثار باستمرار في جريدة "العلم"، التي ذكر لي بنسعيد أنه لكي تقتني أحد أعدادها، تكون هناك صفوف طويلة تنتظر دورها قبل أن تنفذ نسخها... وفي هذه السنة (1947)، سينتمي بنسعيد إلى حزب الاستقلال، وينخرط في الحركة الطلابية، التي كانت نشيطة، مستفيدة من التوجيهات والمحاضرات واللقاءات، التي يقوم بها قادة الحزب لفائدة طلبة بن يوسف في مراكش، وفي مقدمة هؤلاء القادة كان عبد الله إبراهيم والمهدي بنبركة، اللذان لعبا دورا مصيريا في نشر الفكر التقدمي والحداثي... كان بنسعيد من ضمن طلبة جامعة ابن يوسف، ومكّنتهم محاضرات عبد الله إبراهيم بالخصوص، نظرا لوجوده المستمر في مراكش، من تأهيلهم للقيام بأعمال نضالية، ابتدأت بحركة تضامن طلابي مع رفاقهم طلبة جامعة القرويين، الذين تعرّضوا لقمع شرس من قبل سلطات الاستعمار، فتدخل التهامي الكلاوي لقمع طلبة مراكش، في أحداث كان لها صدى في الدارالبيضاء والرباط وفاس ومكناس ومناطق أخرى...
 
في هذا المناخ العام، ستتشكّل باقي ملامح شخصية بنسعيد، من انخراطه في النضال السياسي التقدمي، إلى النضال الوطني من أجل دحر الوجود الاستعماري، بتكوين خلايا المقاومة المسلحة، ليصبح أحد أبرز قادة جيش التحرير المغربي في الجنوب، إلى حين الحصول على الاستقلال السياسي، دون أن تتحقّق العديد من أهداف الحركة الوطنية، التي تعود أسبابها إلى النخبة الموجودة آنذاك، التي قال لي بنسعيد إنها أضاعت الكثير من الفرص التاريخية، لبناء مغرب جديد حر وديمقراطي متحرر من الاستبداد...
 
وهذا موضوع آخر، سأعود إليه في وقت مناسب، خصوصا أن الرفيق الفقيد، الذي رافقتُه لسنوات عديدة، كان يحكي لي عن تفاصيل هذه "الفرص الضائعة"، منذ ثلاثينيات القرن الماضي، إلى حين الحصول على استقلال منقوص، سيتلظى فيه بسنوات الرصاص والغبار...
 
 
وسيظل التاريخ السياسي المغربي يذكر لبنسعيد مواقفه الجريئة، في طرح عديد من القضايا المشتعلة، ليس أولها ولا آخرها، مقاومة الضغوطات والتهديدات لثنيه عن طرح ملفات حقوق الإنسان، والجهر بفظاعات تازمامارت... فضلا عن عدد آخر من القضايا المشتعلة في العلاقة بين معارض شرس، وبين ملك قوي شديد المراس... وأعتز بكوني عشت وعايشت عن قرب الكثير من محطات هذه العلاقة المشتعلة...
 
وفي هذا الصدد، وعلى المستوى الشخصي، خَبرتُ بعض ملامح هذه الشخصية المناضلة القيادية وأنا شاب طالب جامعي، آنذاك، بعد دخوله من المنفى عقب العفو الملكي المعروف سنة 1981، إذ فاجأني السي بنسعيد، خلال العطلة الجامعية التالية، بزيارتي في منزل العائلة بمدينة اليوسفية، المدينة الفوسفاطية الصغيرة المهمشة، رفقة رفيقي العائد، حديثا، من المنفى امبارك دكيري، كانت لحظة مهيبة، بالنسبة لي، سرعان ما تبدّدت الرهبة في جلسة شاي مغربية بخبز وزيت، وبغير قليل من الوقت، سينتهي بي الحال أمام شخص سيصبح هو الوالد والرفيق والصديق... وهذه الخصلة، التي كان شباب المنظمة يجدونها في السي بنسعيد، هي التي بقيت روحها مستأثرة بفكره وانشغاله، وعندما أسّسنا حركة الشبيبة الديمقراطية كنا نجده الأقرب إلينا والأكثر تفهما لمواقفنا، كنا نجد فيه صورتنا وحلمنا الديمقراطي الشعبي، واستمر الحال إلى حين رحيله، حيث ظل الشباب يتبوأ صدارة تفكيره ومواقفه... وبعد انضمامي إلى أسرة تحرير جريدة "أنوال"، كنت مكلّفا بتغطية أنشطة السي بنسعيد في البرلمان، ثم تعمّقت علاقتي به لمّا تكلّفت بنشر حلقاته الأسبوعية عن جيش التحرير، حتى أصبحت خبيرا بفك طلاسم خطه، إذ كان يكتب كل حلقاته بخط يده... وخلال هذه المسارات، كنا نجد مساحات من الوقت يحكي لي فيها عن عدد من الأحداث، التي وسمت تاريخه الشخصي والعام... سأعرض لبعضها أدناه، وضمنها بعض الوقائع الطريفة، وكلها مازالت مسجّلة عندي، وبعضها صوت وصورة...
 
بنسعيد ينجو من موت محقق بزلزال أكادير
 
لمن لا يعرف، كان اعتقال بنسعيد في اليوم الموافق لـ"عيد الحب"، يوم 14 فبراير 1960، في أكادير...
 
وعادة عندما كان بنسعيد يزور أكادير، كان ينزل عند أحد الأصدقاء المقرّبين، هو السي عبد الله وهبي، وكان يلقى الرعاية اللازمة من عائلته، وعندما جاء الزلزال، الذي ضرب المدينة يوم 29 فبراير، كان بنسعيد في السجن، فأفلت من موت محقّق، إذ إن الزلزال هدّم ذلك المنزل بكامله...
 
وحتى الصديق وعائلته نجوا من الفاجعة، بمحض الصدفة، إذ حل البوليس السياسي بالمنزل، وفتشوه تفتيشا دقيقا، بحثا عن وثائق قد يكون بنسعيد تركها أو خبّأها في البيت... بعدها، اتصل أحد أفراد عائلة بنسعيد، بالسي عبد الله وهبي، وقال له: "بدّل ساعة بأخرى"، ونصحه بمغادرة أكادير، والإقامة، خلال هذه الفترة، عند أحد أصهاره في الدارالبيضاء، إلى أن تهدأ الأمور... ومن عجائب الصدف، أن السي عبد الله غادر البيت مع عائلته في 12 ظهرا، وفي 12 ليلا وقع الزلزال وتهدّمت الدار...
 
أول من رفض تقبيل يد الملك الحسن الثاني
 
يحكي بنسعيد أن الواقعة حدثت دون ترتيب ولا تخطيط، فقد استدعى الملك رؤساء الأحزاب المغربية، لإخبارهم بأهمية سفرهم إلى أديس أبيبا لمتابعة تطوّرات قضية الصحراء المغربية في اجتماع لمنظمة الوحدة الأفريقية، وكانت هذه أول مرة يلتقي فيها بنسعيد مع الملك الحسن الثاني، الذي اتهمه ثلاث مرات، في بداية الاستقلال، بمحاولة اغتياله، مرة وهو ولي للعهد، ومرتين وهو ملك، إلى أن تسلّل بنسعيد خارج البلاد، قبل العودة من المنفى بمقتضى عفو ملكي...
 
كان اللقاء في فاس، وعندما التقى الملك، لم يكن بنسعيد يعرف كيف سيتصرّف، فوضع يده على كتف الملك، ولما أراد الانصراف استوقفه الجالس على العرش وسأله بنبرة جافة مستفزّة: "شكون أنت؟"، فأجاب بنسعيد بكلمة واحدة وبنبرة جافة: "بنسعيد"، وانصرف!
 
وعند العودة من أديس أبيبا، كان لقاء آخر مع الملك، فكّر بنسعيد أنه لقاء دولة كبير يحضره الوزراء وكبار ضباط الجيش وشخصيات معروفة وموظفون سامون، فقال مع نفسه: "أنا ماغاديش نبوس اليد، وبالتالي من الأفضل أن أتحاشى التسليم على الملك حتى لا يُعاد نفس السيناريو السابق، وتلافيا لأي موقف لن يزيد الأمور إلا تعقيدا".. غير أن وزير الداخلية إدريس البصري "كيقلّب على هاذ الشي"، إذ بعث خلفه ليُبلغه بضرورة تقبيل يد الملك عند السلام عليه مثله مثل الآخرين...
 
لكن بنسعيد عمل "اللي في دماغو"، عندما وصل دوره في السلام على الملك، اكتفى بوضع يده على كتف الحسن الثاني، ولما أراد الانصراف، استوقفه الملك مرة أخرى وقال له: "راه المخزن عندو تقاليد خاصك تحترمها"، ثم انسحب بنسعيد دون جواب...
 
لم يبتعد بنسعيد إلا بخطوات حتى بدا وكأن القيامة قامت الآن، إذ لحق به أحمد بنسودة مستشار الملك لينبّهه: "هناك تقاليد عليك الالتزام بها في حضرة الملك، فالبروتوكول يقتضي بأن تنحني على الكتف وتقبّل يده". فأجابه أنه لا يعرف شيئا عن هذه التقاليد، وقال: "أنا أعرف الحسن الثاني حتى قبل أن يتولى الملك، ولا أرى أي أهمية لمسألة نبوس أو ما نبوسش اليد"... ثم بعده، جاء الدور على إدريس البصري، الذي كان الملك سلّط عليه غضبه، وسأل بنسعيد باستنكار ضمني: "أش هاذ الشي درتي لينا مع سيدنا؟"، فأجابه بنسعيد بسؤال: "أش درت؟"، فنبّهه إلى مسألة تقبيل يد الملك. فرد بنسعيد على البصري: (أنا ماشي جديد في هاذ البلاد، باش تعطيوني إرشادات أش ندير، والملك أعرفه ويعرفني، وماشي جديد عليه، ولهذا ما يفرضش علي شي حد شي حاجة"، فقال البصري بنوع من الاستكانة: "لا ألسي بنسعيد الله يخلليك جي لعندي باش نمشيو لعند الملك تعتذر لو"، فردّ بنسعيد: "ماغاديش نجي لعندك وما عنديش علاش نعتذر"، فاحتدّ البصري وهو يطلب من بنسعيد ألا يأتي مرة أخرى عند الملك، فأجابه بنسعيد: "أنا ماعمرني طرقت باب القصر، وما عمرني جيت حتى كتسدعيوني، إلى استدعيوتوني نجي ما استدعيتونيش ما نجيش"...
 
بنسعيد "يفجّر" البرلمان بـ"صديقنا الملك" ويُسكت مولاي أحمد العلوي
 
عند صدور كتاب جيل بيرو "صديقنا الملك" سنة 1990، استنفرت الدولة هياكلها وأقطابها، وأعدّت السطات عدّتها لعقد جلسة برلمانية استثنائية للتنديد بالكتاب وكاتبه... ودُعي قادة الأحزاب السياسية إلى جلسة تمهيدية، أخبر فيها الملك الحاضرين بقرار الابتعاد عن فرنسا وتطوير العلاقات مع إسبانيا وإيطاليا، فتدخّل الحاضرون بخطابات مساندة، ولما وصل دور بنسعيد في التدخّل توجه مباشرة إلى الملك بالقول: "يا صاحب الجلالة، ما قلتَه عن الابتعاد عن فرنسا مهم جدا، ومن المهم أن يصبّ ذلك في تحرر بلادنا والكفّ عن التبعية لأي جهة أجنبية، وأن يفتح المغرب علاقات مع كل دولة يريد بقرارات سيادية لخدمة مصالحها... لكن هاذ الشي اللي كيقولو هاذ الناس (في إشارة إلى مضامين كتاب جيل بيرو) ما خاصّوش يبقى، وما يبقاوش عندنا معتقلين سياسيين..."، فقاطعه الملك مجيبا: "كاين أنيس بلافريج لديه موقف من الصحراء المغربية، وأطلقت سراحه هو وصحابو، وكذلك السرفاتي وهو ضد القضية الوطنية"، ثم جرى تعويم الجلسة حتى لا يواصل بنسعيد كلمته، التي كان يريد أن يردّ فيها على موضوع أبراهام السرفاتي، بالقول: "هناك أناس استفادو من كلمتكم (إن الوطن غفور رحيم)، وقد حملوا السلاح في وجه المغرب، وصدر عليهم العفو، في حين أن السرفاتي لم يحمل السلاح، وإنما هو حامل فكر، والفكر هناك رأي عام وأغلبية المغاربة لديهم الوطن أكبر من وجهة النظر هذه، وفي العموم، تكون مواجهة الفكر بالفكر وليس بأساليب أخرى تنتهك حقوق الإنسان"...
 
لم تنته القصة عند هذا الحد، إذ لحق إدريس البصري ببنسعيد وقال له: "سيدنا قال لي اللي تكلّم على المعتقلين السياسيين هو بنسعيد، خاصّك تتكلّم معاه باش ما يجبدش موضوع المعتقلين في جلسة البرلمان"، فردّ عليه بنسعيد: "علاش ما نجبدوش، راه من مصلحتكم نتكلم على المعتقلين السياسيين، وتبيّنوا أنه كاين هامش ديال الحرية مهم في البلاد، أما إذا منعتوني، فراه ما كاين لا حرية ولا والو، وبالتالي ذاك الشي اللي كيقولو ذوك الناس صحيح"...
 
وعقب فشل البصري في مسعاه، كلّف القصر أحمد عصمان، الذي كان آنذاك رئيسا لمجلس النواب، بالموضوع، الذي بدوره بعث مساعده آنذاك محمد بن الطالب إلى بنسعيد، وقال له: "أنت كدافع على بنسعيد سير تكلّم معاه"، لكن مسعاه هو أيضا كان دون جدوى...
 
وعندما انعقدت الجلسة البرلمانية الخاصة، وتناول بنسعيد الكلمة، وأثار ملف حقوق الإنسان في المغرب، قاطعه مولاي أحمد العلوي أن هذا ليس هو موضوع الجلسة وغير وارد في جدول أعمالها، فرد عليه بنسعيد أنه إذا كان لديه ما يقول فليتوجّه إلى الرئيس وأن لا حق له في مقاطعته، وما أن تابع بنسعيد كلمته حتى قاطعه مولاي أحمد من جديد، ومرة أخرى لما واصل بنسعيد الكلمة عاد مولاي أحمد لمقاطعته، فاحتج نواب المعارضة، وانفجر فيه بنسعيد بالقول: "اسمعْ آمولاي أحمد، إلى ما سكتي راه عندي ما نقول فيك"، ثم التفت إلى عصمان وقال له: "أنت رئيس الجلسة، يلزم أن تضبط هاذ الشي، وإلى ما كنتيش رئيس الجلسة قولها لينا ما نتكلموش وما نجيوش كاع"، وآنذاك سيبادر عصمان إلى توقيفه عن المقاطعة...
 
وأذكر، عندما حكى لي السي بنسعيد الواقعة، التي عشت بعض فصولها، سألته: "اشنو كنتي غتقول في مولاي أحمد مللي سكتّيه؟"، فأجاب ضاحكا: "كنت غنقول لو أنت صيفتّي برقية تأييد لبنعرَفَة ضد الملك ودابا جاي كدّافع على الملك"... وأذكر أن مولاي أحمد العلوي سكت، ولم يعد للمقاطعة...
 
بنسعيد يفجّر في البرلمان قنبلة المعتقل السري تازمامارت
 
لمن لا يعلم، هناك مناضلة حقوقية وسياسية ونسائية كبيرة هي التي كانت بجانب عائلات معتقلي تازمامارات، على خلفية المحاولتين العسكريتين الانقلابيتين: الصخيرات (1971) والطائرة (1972)، وكانت تطوف معهم على الأحزاب السياسية لإقناعهم بطرح الموضوع في البرلمان، هي الرفيقة نزهة العلوي، التي كانت مبادرتها دون جدوى ودون استجابة إلا من لدن زعيم واحد، هو رفيقها والأمين العام لحزبها، منظمة العمل الديمقراطي الشعبي، السي محمد بنسعيد أيت إيدر، الذي تسلّم منها ملفّا شاملا عن المعتقلين، وعن أساليب التنكيل بهم في معتقل تازمامارت السري، والمعتقلين الذين توفوا تحت التعذيب، والآخرين المتبقين الذين ينتظرون دورهم في... الموت في الزنازين... فوعدهم بنسعيد خيرا، وأكد لهم أنه سيطرح الموضوع في البرلمان...
 
تسرّب الخبر إلى المجالس الخاصة، وبدأت المحاولات من هنا وهناك لجعل بنسعيد يتراجع عن موقفه، خصوصا أن رئيس الدولة خرج بتصريح، في تلك الفترة، ينفي فيه وجود معتقل سري اسمه تازمامارت... لكن بنسعيد كان قد عقد العزم بكثير من التصميم، لم يلتفت إلى الضغوطات والتهديدات، ولما اعتلى منصة البرلمان طرح الموضوع مفجّرا قنبلة حقوقية جابت الجهات الأربع للمعمور، وأضحى معتقل تازمامارت على كل لسان، حتى اضطرت السلطات إلى الخروج عن صمتها وإنكارها، وأغلقت تازمامارت وأطلقت سراح معتقليه...
 
الزعيم الذي لا يعض على الكرسي بالنواجد
 
هناك الكثير من الوقائع المهمة جدا، التي حكاها لي السي بنسعيد، آمل أن أتمكّن من تدوينها جميعها، وفي الانتظار، أتوقّف، اليوم، لأَذْكر واحدا من مشاهد ألقه وبهائه وشموخه في الجلسة الافتتاحية للمؤتمر الاستثنائي لليسار الاشتراكي الموحد يومي 23 و24 سبتمبر 2005، والذي كان تُوج بوحدة اندماجية أعطت "الحزب الاشتراكي الموحد": بخطى متثاقلة، ثابتة وواثقة، تقدم شيخ الاشتراكيين المغاربة، محمد بنسعيد أيت إيدر، إلى المنصة لتناول الكلمة، مباركا خطوة رفيقاته ورفاقه المجتمعين...
 
كان بنسعيد، أو الشتوكي كما كان يُنادَى ذات سنوات رصاصية، الذي تحدث في سبتمبر 2005 بمسرح محمد الخامس بالرباط، بلكنته السوسية، عن الحرية والكرامة والديمقراطية والعدالة الاجتماعية، هو الرجل ذاته، الذي كانه في مرحلة مقاومة الاحتلال، ثم في مرحلة النضال من أجل بناء دولة الاستقلال. كان يومئذ، مثلما كان دائما، صلبا مكابرا شامخا، حالما بمغرب الحرية الآتي على صهوة جواد أصهب أو أدهم، المهم أن يأتي مطواعا أو غلابا، يوزع على الأهل والأحباب خزامى ونورا ونوارا، وتطلق الصبايا زغرودة العيد، مع إطلالة فجر جديد، على البلد الأمين السعيد.
 
اختار بنسعيد ألا يكون شبيها بزعماء كانوا وما زالوا قاعدين على الكرسي الأول يعضّون عليه بالأسنان والنواجد فسلّم المشعل للأجيال الموالية
 
وكان بنسعيد هو ذاته، ثاني زمانه بعد الزعيم الاستقلالي امحمد بوستة، الذي اختار ألا يكون شبيها بزعماء كانوا وما زالوا قاعدين على الكرسي الأول، يعضّون عليه بالأسنان والنواجد. قرر بنسعيد، اختيارا وطواعية، أن يسلّم المشعل والأمانة للأجيال الموالية.
 
يطرح موقف بنسعيد إشكالا مزمنا في الحياة السياسية المغربية، يتجاوز ثوابت وتحولات علاقة الشيخ بالمريد، إلى وضع الشيخ نفسه، رؤيته للصراع وللعالم وللتنظيم، أي إشكالية الخلافة في المشهد الحزبي، والنقابي كذلك. لا ينزاح القائد إلا بداعي العجز أو الموت. ولا يكفيه أن يعزز زعامته بديمقراطية الانتخاب، بتجييش المريدين، الذين يصوّتون على بقاء الزعيم، بل يصبح هو من ينتخب "شعبه"، وبكل ديمقراطية.
 
كسّر بنسعيد هذه القاعدة، ولعلة ما، تواطأت الساحة السياسية والإعلامية، آنذاك، على ترك هذا السلوك يغيب في العتمة، وفي الصمت... لم يول بنسعيد شأنا لهذا الصمت الواطئ، تماما مثلما كان لا يبالي بالضجيج، الذي ظل يلاحق مواقفه الصلبة طوال مسيرته النضالية، منذ حمل السلاح في وجه المستعمر، إلى مقارعات سنوات الرصاص التي حصد منها، في المغرب المستقل، ثلاثة أحكام بالإعدام، إلى أن نَفَذَ بجلده سنة 1964، حاملا معه حرقة الوطن إلى هجير المنافي، من الجزائر إلى فرنسا، وحتى عودته إلى البلاد سنة 1981 في أعقاب عفو ملكي.
 
وطوال هذه المسيرة، ظل بنسعيد يحمل هموم الوطن، بالليل وبالنهار، يُوسّع معارفه ويعمّق دراسته، باحثا عن معادلة بين أرضية ثقافية سلفية تلقاها في جامعة ابن يوسف في مراكش، وبين مرجعية اشتراكية ناهضة غذّتها محطات كبرى وطنية (انتفاضة 23 مارس في الدارالبيضاء)، وقومية (انطلاقة الثورة الفلسطينية)، وأممية (انتصارات الثورة الفيتنامية وفتوحات الثورة الصينية)، ليلتقي مع جيل جديد من رفاقه الشباب في تأسيس وقيادة "منظمة 23 مارس"، التي انتقلت، بعد حوالي عقد من الزمن، وبعد مراجعة نقدية شاملة وجريئة، من العمل السري، إلى ضفة الشرعية القانونية بتثبيت استراتيجية النضال الديمقراطي مع منظمة العمل الديمقراطي الشعبي، التي حصلت على الوصل القانوني للعمل في العلنية، أو "الشرعية"، سنة 1983، إلى أن اختار هذا الحزب، منذ سنة 2002، الاندماج مع حركات يسارية أخرى في تشكيل حزب اليسار الاشتراكي الموحد، ثم تحوّل إلى الحزب الاشتراكي الموحد...
 
بنسعيد: نحن فخورون أننا لم نفقد أخلاقنا وروحنا بمساهمتنا في المؤسسات التمثيلية التي هي بالنسبة لنا مجال للنضال والمواجهة وليس مكانا للامتيازات والمحاباة والفساد
 
وعندما قرر رفاق بنسعيد العودة من المنفى والدخول إلى المغرب، تهاطلت عليهم الاتهامات بالسقوط، وقيل إنهم سمسروا في القضية و"باعوا الماتش". كان بنسعيد يبتسم ساخرا من هذه الاتهامات، التي تزايدت عقب ولوجه البرلمان في الانتخابات التشريعية لسنة 1984، قبل أن يتبيّن للمتهِمين، خلال مسيرة عقدين من الممارسة البرلمانية والقيادة الحزبية، أن الرجل لا يبيع ولا يباع، وأن الوطن لديه ليس متاعا للعرض في المزاد. كانت المؤسسات المنتخبة حصان طروادة نحو السلطة عند البعض. بيد أن الحصيلة الملموسة كانت تجعل بنسعيد يرفع رأسه ليؤكد "نحن فخورون بالقول إننا ساهمنا في هذه المؤسسات دون أن نفقد أخلاقنا وروحنا. فالانتخابات والمؤسسات التمثيلية، بالنسبة لنا، هي مجال للنضال والمواجهة، وليس مكانا للامتيازات والمحاباة والفساد". كان شيخ الاشتراكيين المغاربة يعتقد أنه بين "القبول بالمخزنة والخطوط الحمراء، وبين الرفض القاطع للعمل السياسي داخل المؤسسات"، هناك طريق ثالث، من الداخل، الذي اعتبَرَه ممكنا، وسار على هديه بكل شموخ وإباء، وهذه الطريق بالذات هي التي وفّرت، في ذلك المؤتمر الاندماجي، قاعدة سياسية للاعتماد عليها في مشروع بناء وحدة للاشتراكيين المغاربة، وحدة سرعان ما انفجرت لعدة عوامل مركّبة ليس هنا مجالها...
 
في تلك الجلسة الافتتاحية لمؤتمر استثنائي اندماجي، تحدث بنسعيد عن المغرب، الذي في البال، ودعا رفيقاته ورفاقه للنهوض بالأمانة، وحمل المشعل، لمواصلة الطريق على درب النضال التحرري، الذي قدّم في سبيله زهرة شبابه وحريته وأعصابه، وقدم كل شيء بلا حساب... لم تكن هذه الدعوة جديدة. كان بنسعيد اختار، في ربيع سنة 2004، الانسحاب من موقع المسؤولية الأولى في التنظيم بكل هدوء، ودونما حاجة لقرع الطبول، وترقب لمريدين يتداعون بالنحيب والعويل مطالبين ببقاء الزعيم.
 
وقف بنسعيد، ربيعئذ، ليعلن "أشعر أن الوقت حان لإعطاء المشعل للجيل الموالي". وقال لرفيقاته ورفاقه "المستقبل مستقبلكم، فحضّروه بجدية". وأكد "المسؤولية لكم، فثابروا عليها بديمقراطية". وزاد مشددا "مغرب الألفية الثالثة مغربكم، فاندمجوا في العصر مواطنين حداثيين ديمقراطيين اشتراكيين".
 
بين القبول بالمخزنة والخطوط الحمراء وبين الرفض القاطع للعمل السياسي داخل المؤسسات هناك طريق ثالث اقتنع به بنسعيد وظل يسير على هديه بكل شموخ وإباء
 
أطلق بنسعيد وصيته ومضى بغير التفات، وعاد إلى القاعدة مناضلا كما بدأ، يحلم بالشمس والخبز والزيت، وبمغرب يغلق صفحات الحزن والكدر والوقت المهدور، ويفتح دفاتر العشق والنوار والنور...
 
وواصل بنسعيد، من موقعه الجديد، كمناضل قاعدي، التفاعل مع النضال التغييري لشابات وشباب اليسار الديمقراطي، ويدعو عموم الشباب المغاربة إلى الانخراط في الحياة السياسية، والمشاركة الواعية في الاستحقاقات الدستورية، كسبيل ديمقراطي، الأكثر جدارة، لمواجهة الفساد والاستبداد والدفاع عن دمقرطة الدولة والمجتمع، وكتب وصيته الجديدة، "رسالة مضاءة" بخمس شمعات "أمل" موجهة إلى "بنات وأبناء مغربنا الحبيب"...
 
رسالة من أجل الوطن
 
الشمعة الأولى عبارة عن "رسالة من أجل الوطن"، تحدث فيها بنسعيد عن فترة الحماية، وكيف قاوم الشباب المغاربة الاحتلال بـ"الشعر والمسرح، والمظاهرة، واللطيف، قاومناه، بالمذكرات، والإضراب والمنشور… وبالسلاح لما قوي طغيانه…"، إلى أن فرضوا "خروج الاستعمار، وعودة سلطان البلاد، وإقرار استقلال المغرب… وحلمنا بأن تسود في بلدنا قيم الحرية والكرامة والمساواة… إلا أن استقلال المغرب، كان استقلالا ناقصا… فجزء من التراب الوطني ظل تحت نير الاستعمار، وصراعاتنا كوطنين، في ما بيننا، وأخطاؤنا الاستراتيجية والسياسية، أدت إلى تضييعنا للانتصار الذي حققناه على المستعمر، فتم إقصاؤنا من معركة بناء الدولة الوطنية".
 
رسالة من أجل دمقرطة الدولة
 
الشمعة الثانية عبارة عن "رسالة من أجل دمقرطة الدولة"، تحدث فيها السي بنسعيد عن المعركة ضد التهميش، وضد الفساد والاستبداد، والتي تعرض، خلالها، "الشرفاء المخلصون لهذا الوطن لكل أشكال التنكيل والغصب"، وعن آمال وتطلعات جيل الشباب اليساري الجديد، الذي "توفق في خلق حركة اجتماعية، جندت معظم الشباب المتعلم في عقدي الستينيات والسبعينيات"، و"لهذا الشباب المتعلم يعود الفضل في طرح حقوق المواطنة كما هو متعارف عليها كونيا.. وبفضل عمله ونشاطه ونجاحاته وحتى إخفاقاته". وبالنسبة لجيل الحركة الوطنية المقاومة للاستعمار، يقول بنسعيد: "استطعنا أن نعود إلى الحقل السياسي، وأن نستأنف النضال، أولا ضد التهميش والاستفراد بالسلطة، وثانيا من أجل دمقرطة الدولة وإصلاح النظام السياسي والمشاركة في تحديد مصير ومستقبل شعبنا"...
 
رسالة من أجل دمقرطة المجتمع
 
الشمعة الثالثة عبارة عن "رسالة من أجل دمقرطة المجتمع"، شدد فيها السي بنسعيد على أن "التغيير ليس فقط عملية فوقية، بل جهاد في عمق المجتمع"، بثقافة أخرى، قاعدتها "الوعي بالحقوق، والنضال من أجل اكتسابها والاقتناع بأن الحقوق تستدعي القيام بالواجبات اتجاه المجتمع والوطن والأمة"... هذه الثقافة الجديدة، ثقافة الديمقراطية والمواطنة، التي يدعو إليها بنسعيد، تستدعي، بدورها، معركة عميقة، معركة ضد الذات المحافظة وهي المقصود بدمقرطة المجتمع، وهي "معركة معقدة، متشعبة لأنها تواجه ما هو مستبطن فينا، وفي عمق أعماقنا. معركة تمس منظومة قيمنا المحافظة. فباشرناها، بوعينا التاريخي وبحيوية الجيل الثالث من الحركة الديمقراطية". ولذلك، "اقتنعنا، وأقنعنا، أن التغيير ليس فقط عملية فوقية، بل جهاد في عمق المجتمع"...
 
رسالة من أجل الوحدة الترابية
 
الشمعة الرابعة عبارة عن "رسالة من أجل الوحدة الترابية" تحدث فيها عن تعقيدات ملف استرجاع الأقاليم الجنوبية، وعن الدعوة إلى "توافق وطني حول هذه المسألة المركزية"، وعن "سوء التدبير الناتج من الاستفراد بالملف من طرف الدولة، (مما) سهّل على الأطراف الدخيلة عرقلة كل الحلول الممكنة"... ليخلص بنسعيد إلى القول "حاورنا الصحراويين المنضوين تحت يافطة البوليساريو ليتجاوزوا ما أدى بهم على الانزلاقات نحو الانفصال، وإلى الانخراط معنا، في بناء مغرب ديمقراطي متعدد الروافد والجهات، غني باختلافاته قوي بتضامنه وتعاضده، وذلك منذ أواسط السبعينيات... ومازلنا نطمح إلى هذا الأفق، لتضميد هذا الجرح العميق ولتسهيل بناء مغرب كبير، وفاعل في عصر العولمة".
 
رسالة من أجل المواطنة الكاملة
 
الشمعة الخامسة عنونها بـ"رسالة من أجل المواطنة الكاملة"، تحدث فيها عن "معارك شرسة ضد التهميش وتكميم الأفواه وبناء الخطوط الحمراء وعلى رأسها شكلية الواجهة الديمقراطية"، وأبرز مسار الصراع من أجل إلغاء ظاهرة الاعتقال السياسي، بالمطالبة بإفراغ السجون وعودة المنفيين واحترام حق التفكير والنشر والتجمع والنشاط السياسي...
 
عندما اختار بنسعيد الانسحاب من المسؤولية الأولى في التنظيم قال لرفيقاته ورفاقه: مغرب الألفية الثالثة مغربكم فاندمجوا في العصر مواطنين حداثيين ديمقراطيين اشتراكيين
 
وقال بنسعيد: "ساءلنا المسؤولين، كل المسؤولين حول المعتقلات السرية، وعلى رأسها تازمامارت، كما فضحنا كل أوجه الفساد الاقتصادي والسياسي، وطالبنا بالمساءلة وبعدم الإفلات من العقاب عند الاقتضاء... وبذلك حوّلنا العمليات الانتخابية، بالرغم من كل ما شابها من تزوير وتحريف، إلى لحظات للتجنيد النضالي وللتنوير السياسي والثقافي... كما حوّلنا الواجهة البرلمانية، التي أريد لها أن تبقى واجهة للتزيين، إلى منبر للنضال، وإلى فضاء نسمع فيه صوت الشعب، وإلى جبهة نبني فيها العمل الوحدوي المشترك بين قوى الصف الوطني الديمقراطي"... وشدد بنسعيد على الحيوية النضالية للعمل الوحدوي، مذكرا بعدة معارك نضالية "جمعت في الميدان أجيالا مختلفة، وتجارب نضالية متنوعة، ونسجت علاقات نضالية متينة، وعلى قاعدتها فتحت سيرورة جديدة لتوحيد واندماج القوى المناضلة داخل الصف الوطني الديمقراطي"... ليخلص بنسعيد إلى التشديد على أن "المغرب بحاجة إلى إصلاحات شمولية للقضاء على اقتصاد الريع وعلى نظام الزبونية والمحسوبية، والإفلات من المحاسبة والعقاب وإقرار تنمية اجتماعية أساسها المواطن الحر المسؤول، تنمية تحافظ على توازن الجهات وعلى التوازن البيئي... وبعبارة أوضح فإن بلادنا بحاجة إلى الانتقال الديموقراطي السلمي والحضاري إلى المجتمع المنتج، العادل، الديمقراطي والمتضامن..."، لافتا إلى أن "كل تأخير في هذا الانتقال، سيؤديه شعبنا، وشبابنا على الخصوص، بثمن غال"...
 
كذلك كان.. وكذلك هو الآن وقد ووري الثرى.. لا يساوم في مواقفه السياسية، ولا يلتفت إلى تلك الضربات الهوجاء، لحد الرعونة، التي كانت تستهدفه بين الفينة والأخرى.. وفي كل حادث يصنعون له ما يلزم من حديث، هجموا عليه في قضية رفض تقبيل يد الملك، هجموا عليه في قضية تازمامارت، وعايشت وشهدت يوم انفجر في وجوههم تحت قبة البرلمان متهكما "اللي فيه الفز كيقفز"، هجموا عليه في خروجه المبكّر والاستثنائي للإعلان عن تأييده لشباب "حركة 20 فبراير"، هجموا عليه في قضية التوشيح بوسام ملكي، هجموا عليه في عدم تضامنه مع هذا الشخص أو ذاك... لكن في أغلب هذه الهجومات الضارية، غالبا ما كان بنسعيد يجنح إلى عدم الرد، يمضي أماما، يمضي دون التفات، في واحدة من تعبيراته البليغة عن سخرية مُرّة من حجم الانهيار السياسي والأخلاقي، الذي بات يجتاح الوضع الراهن...