الغد 24 خبر الغد تقرأه اليوم

الجزائر نصف كأسنا الفارغ.. أي تنمية مشتركة لن تكون إلا مع جزائر واعية وذكية مدنية لا عسكرية

 
يونس وانعيمي
 
 
لسنا والجزائر الوحيدين في العالم اللذين يدبّران جوارهما المأزوم:
 
إسبانيا والبرتغال لا تتكلمان مباشرة سوى عبر قنوات آلية يحركها الاتحاد الأوروبي البارد. لكل "عقيدته الوجودية" وأفقه الخاص الذي يتطلع إليه.
 
إيرلندا وبريطانيا بينهما عقدة لم تحلها قرون من الجوار واللغة ومعزوفات الكورنموز cornemuse، وهي آلة تزمير إيرلندية تؤثث كل طقوس المملكة البريطانية...
 
تركيا واليونان وبينهما قبرص.. مصر والسودان وبينهما نهر النيل.. اليابان والصين وبينهما تاريخ حافل بالحروب والاقتتال.. نيوزيلندا وأستراليا وبينهما "سمك القرش" الذي يلتهم من يسبح في مياههما البينية.. الولايات المتحدة الأمريكية وكندا بالرغم من الزهو المخملي...
 
في العالم كثير مما يشبه ما نعيشه مع جارنا الشرقي. الفرق هو أن المتجاورين المتخاصمين لا يتناسون مصالحهم المشتركة.. فقط الجزائر وحدها من تعتبر مصالحها مع المغرب كحصان طروادة يهدد كيانها ووجودها. وفعلا هذه أول مرة نرى أن المصلحة الأنوية هي أكثر اعتبارا من المصالح الاقتصادية.. ليس غريبا ذلك عن دولة ليست لها أجندة اقتصادية متوسطة وبعيدة المدى، مادام هناك لدى الحكم بعض المال الخام في "الخزان"، ومادام الحاكمون هم عسكر في دولة يتطلع شعبها وحراكها إلى بناء دولة مدنية.
 
إذن لننفض من البكاء والحسرة على علاقات جوار لم تكتمل بيننا وبين الجزائر.
 
لكن ما الذي يجعل الجزائر تتلكأ وتصيبها حمى الخيلاء والاستعلاء كلما مد المغرب إليها يده لعقد مصالحة تنهي ذلك الطلاق غير المفهوم؟
 
أول المسببات تأتي من شكل ونمط السلطة بالجزائر. الجزائر مع الأسف دولة عسكرية تركها معسكر الحرب الباردة القديم-المتجدد، كما ترك طائراته وبوارجه الصدئة على شواطئ الكثير من البقاع، أو كنقابل مبتوتة تحت الرمل ليستعملها عند الحاجة.
 
منذ أن استقلت الجزائر من استعمار فرنسي مهول وطويل (أطول استعمار في العالم الحديث) لم تختر الجزائر الشروع في ورش بناء الدولة والمؤسسات.. بل اكتفت بحفر آبار وتشييد خطوط سكك مهترئة وخلق حسابات بنكية داخليا وخارجيا يمتلكها الحارس المسلح لأضراسه (الجيش).
 
ولكي يتسلط الحارس ويخيف، أصبحت الجزائر تشتري السلاح أكثر من الدواء والغذاء.. وحتى عندما أُصيب رئيسها بكورونا، في دولة يقول حكّامها إنها تتوفر على أحسن وأفضل منظومة صحية في أفريقيا، لجأ "المسكين" إلى ألمانيا للاستشفاء، وعندما أصابتها، في هذه الأيام، فاجعة الحرائق المهولة، لم يجد الحارس أية معدات لإخماد الحرائق وإنقاذ العباد والدواب... وكيف يقدر على ذلك والحارس كله ظلمات: من الانقطاعات المتكررة لمياه الشرب، إلى اختفاءات العديد من المواد الغذائية الأساسية، مثل الحليب والزيت...
المسببات التالية مرتبطة بالأول، بنظام العسكر...
 
جنرالات الجزائر يرون أن أي تحالف اقتصادي مع المغرب لن يكون فقط إيجابيا على مستوى منح الدولتين نقطا وافرة في التنمية.. بل، بالنسبة إليهم، سيعبّد طريقا سريعا ليتحول المغرب نهائيا إلى موقع الريادة الإقليمية الاقتصادية والسياسية والدبلوماسية، وسيوفر له جاهزية لحل معضلاته الترابية السيادية..
 
رهاب السيطرة المغربية يجعل النظام العسكري الجزائري يفضل أن "يتناول عقاقير مسكنة" على أن يستأصل "أورامه" بشكل نهائي. وأكبر الأورام السرطانية هي تلك الميليشيا المسلحة المسماة بوليزاريو، والتي ظنت الجزائر أنها توجع جنوب المغرب.. الواقع اليوم يؤكد ما يلي: كلفة الميليشيا مرتفعة كثيرا بالنظر لأهدافها المسطرة، وقدرات الجزائر المالية لم تعد تكفي لشراء ولاءات دول أفريقية فهمت أن تجديد تعاقدها الاقتصادي مع المغرب يوفر لها فرصا تنموية أكثر هيكلة من شيكات بئيسة لا تذهب سوى إلى جيوب أشخاص وليس أوطان.
 
وحتى ذلك الثالوث، الذي ظنت الجزائر لعقود أنه ثالوث القوة الأفريقية (الجزائر، نيجيريا، جنوب أفريقيا) بدأت عيوب خلقية تظهر للعالم، إذ انتهى إلى مجرد وهم جزائري ليس إلا.
 
جنوب أفريقيا والجزائر، من الناحية التاريخية، دولتان محتلتان ساهم المغرب في عمليات تحريرهما. الملكان الراحلان محمد الخامس والحسن الثاني هما من سلح ثورة الجزائريين ونضال نيلسون مانديلا، وهما من أمداهما بالأطقم والكفاءات العسكرية والمال والسلاح.. طبعا هناك نكران ممنهج لهذه الحقيقة التاريخية، لكن النخب السياسية بالدولتين تكتنز كل الوثائق وكل الوجدان المشترك اتجاه المملكة العلوية.
 
الثالوث وهم كذلك عند نيجيريا، التي عادت إلى وعيها، وفهمت أن مصالحها القومية مع المغرب جد مواتية، فلم تتأخر كثيرا في إبرام أهم اتفاق طاقي واقتصادي على الإطلاق مع المغرب (أنبوب الغاز القاري من نيجيريا إلى المغرب نحو أوروبا) كما فتحت للمكتب الشريف للفوسفاط مجالا واسعا واعدا في الاستثمار في الطاقة الأحفورية والفلاحة..
 
نيجيريا ليست غبية لتترك أفقا واعدا وتتمسك بأدلوجة جزائرية عسكرية ليس معها تنمية للشعب النيجيري، الذي لا يريد أن تتحول بلاده إلى فنزويلا أفريقية.
 
كان من المفيد للجميع أن تنفض الجزائر من وهم الريادة وتعوضه بأمل التنمية الحقيقية، لكنها فضلت أن تبقى نصف كأسنا الفارغ، لأن أي تنمية مشتركة منشودة لن تكون وترتقي إلا مع جزائر واعية وذكية، بـ"دولة مدنية ماشي عسكرية"...