الغد 24 خبر الغد تقرأه اليوم

رسالتي إلى الموت في زمن كوفيد التاسع عشر

 
نورالدين الطويليع
 
أيها الموت تمهل قليلا، امنحنا فرصة الوداع الأخير، كن بنا رحيما، واتركنا نأخذ على مهل قبلات الافتراق، وتريث قليلا بعد كل غزوة تغزوها، ولا تعد الكرة والاتصال، وكفاك حرقا لأكباد تفحمت، وإدرارا لدموع قدر عليها أن تبقى دائمة الانهمار على وقع فواجعك المتصلة اتصال السلاسل الحديدية الشائكة.
 
أيها الموت، وأنت تمتطي صهوة كوفيد التاسع عشر، وتلوح بقبضتك في كل الاتجاهات، دون أن تحدث النفس بأن تعطينا مهلةً لالتقاط أنفاسنا وإحصاء خسائرنا الفادحة، وأن تمنحنا وقتا كافيا للحداد على عزيز أو حبيب، وأنت تفعل كل هذا وأكثر من هذا، نخبرك أن مشاعرنا تكلست، فما عاد الفقد يؤلمنا، وما عادت الحياة تغرينا، بعدما تساوى الفرح والقرح في ميزان أحاسيسنا، ولبسنا جميعا رداء الشاعر الفيلسوف "أبو العلاء المعري"، وتبنينا عن اقتناع وإيمان نظرته إلى الحياة:
 
غَيْرُ مُجْدٍ في مِلّتي واعْتِقادي نَوْحُ باكٍ ولا تَرَنّمُ شادِ
وشَبِيهٌ صَوْتُ النّعيّ إذا قِيسَ بِصَوْتِ البَشيرِ في كلّ نادِ
أَبَكَتْ تِلْكُمُ الحَمَامَةُ أمْ غَنْنَت عَلى فَرْعِ غُصْنِها المَيّادِ
 
أيها الموت المدجج بالحقير كوفيد التاسع عشر، لقد أتيت على أخضر الأحباب والأصحاب، ومازلت تتربص بنا الدوائر، نحن الذين نستيقظ في الصباح على إيقاع نعي مؤلم، ونقضي نهارنا وجزءا من ليلنا نترقب ضرباتك، ونعزي هنا، ونتلقى التعازي من هناك، ولم يعد لنا من حديث سوى عن زياراتك المتوالية، أو بالأحرى، عن مقام استمرأته بين ظهرانينا، وصرت حريا أن تحسب منا لولا أنك أتيتنا محاربا بسيف كوفيد التاسع عشر اللعين.
 
أيها الموت، بعد كل هذا الذي فعلته بنا أكمل حسنتك، وخذنا جميعا إلى العالم الآخر الذي صار مغريا بعدما غادرنا إليه المقربون والأحباب، نريد أن نلتئم هناك، ونتزاور، ونتبادل أطراف الحديث، ونعانق بعضنا بعضا، وننظر بإشفاق إلى من تخلفوا في مسرح الحياة، وانشغلوا بالكيد لبعضهم بعضا، وبتحطيم بعضهم بعضا، وبنصب المكائد والكمائن، وباللهاث وراء الذل والهوان طمعا في بقايا طعام نراه بطعم الحنظل، ويرونه أحلى من العسل.
 
لم يبق للحياة طعم، فخلصنا أيها الموت من رتابتها، واحملنا على جناح الرحمة إلى العالم الآخر لنستمتع بطهرانيته، ولنستأنس بأحبابنا هناك، فقد انفطر القلب حزنا عليهم، وتقرحت العين بكاء، واستعجلت النفس الوصال بعد فراق أليم أخذ منا كل رغبة في المزيد، وجعلنا نحصي رتابة أوقاتنا، ونترقب في كل وقت وحين زيارتك الحانية، متوسمين فيها تخليصنا من الليل البهيم والذئاب الغادرة.
 
كاتب وفاعل مدني