الغد 24 خبر الغد تقرأه اليوم

رواية "تغريبة العبدي المشهور بولد الحمرية".. نهاية أسطورة الشرق

 
مصطفى لمودن
 
 
منجزٌ غير عادٍ رواية "تغريبة العبدي المشهور بولد الحمرية"، للكاتب المغربي عبد الرحيم لحبيبي، إنه عمل خارق من عدة نواحٍ، رغم ما يمكن ملاحظته على المضمون، وعلى النتيجة المستخلصة من كل ذلك الجهد الكبير.
قرأت الطبعة الثانية الصادرة سنة 2014، عن أفريقيا الشرق، وهي تقع في 256 صفحة، وقد وصلت إلى القائمة القصيرة من جائزة البوكر الرفيعة على مستوى العالم العربي.
واضح أن الرواية كُتب عنها الكثير، وأعتقد أن لكل قراءة إضافة، وقراءتي المتواضعة لهذه الرواية الضخمة، لا تعدو أن تكون مجرد انطباعات.
واضح، كذلك، أن لحبيبي تمحّن كثيرا ليُخرج هذا العمل الروائي؛ أولا لابد أن يكون قرأ كثيرا.. والأهم، أنه تمكّن من اللغة بشكل رهيب، حتى من لغة كلاسيكية بقيت مثبتة في الكتب القديمة، لكن الكاتب أحيى عظامها وجعلها حية ترزق، وأحيانا يلجأ إلى الهامش ليشرح ما عصي عن الفهم.
وأن يكون مؤرخا، فأحداث الرواية تدور في القرن التاسع عشر. وأن يكون جغرافيا وملما بأدب الرحلة والأسفار، لأن بطل الرواية قطع آلاف الكيلومترات على الدواب أو القدمين أو السفينة.
أن يكون مطلعا على الإثنوغرافيات، فقد وصف كل بلدة وصل إليها الرحالة، مع ذكر حالة الأقوام التي تسكنها، ووصف عيشها، وما تكابده من محن أو ما تعيشه من مسرات..
أن يكون مطلعا على الفقه وأحكام الشريعة والنوازل.
باختصار، لو أن كاتبا غربيا مَن كان وراء هذه الرواية، لأقيمت الدنيا ولم تقعد، تكريما للكاتب واحتفاء بروايته.. ماذا يميز "مائة عام من العزلة" عن هذه الرواية بحق الأدب؟
لا يمكن أن أسطو على التشويق الذي تتمتع به أية رواية، وأستبق القارئ لأكشف له عن التفاصيل، لهذا لن أذكر ملخصا أو أحداثا، وهذا ما يميز الكتابة الصحفية حول الأدب، حيث يتم الاكتفاء بالتقديم والتشويق، لكن، بما أنه مرت سنوات على النشر، سأذكر رأيي بالتلميح.
إن الرواية تقوم على لعبة الكشف البطيء لمحتوى مخطوطة وجدها السارد في جوطية بأسفي، المدينة المغربية على المحيط، وظهر للراوي أنها كانت من ضمن ممتلكات شرطي لم يساهم في سنوات الرصاص كما جاء في الرواية، ولكن كان ملازما مكتبه.. ربما القصد من هذه المعلومة إطلاق سراح مخطوط قيّم كان رهن الحجز، لكن لا أحد عرف قيمته، بمن في ذلك أساتذة بالجامعة. لهذا قرر الراوي نشر المخطوط الذي كتبه فقيه غير معروف من أسفي ينتمي لقبيلة عَبْدة، وهو تدوينات رحلته الطويلة من المغرب إلى الحج عن طريق السودان (علمت من الرواية أن السودان المغربي يقصد به مالي والسينغال)، ثم العودة إلى إسبانيا عن طريق مصر والبحر.. علما أن المخطوط غير تام كما يعلم ذلك القارئ من البداية.
من لم يقرأ هذه الرواية، سيجد متعة لا تُضاهى وهو يتابع رحلة هذا الفقيه.
غير أن الكاتب (وليس الراوي الذي يصمت بمجرد عرض المخطوط) يستعين بالهامش ليشرح ويضيف ويوضح، سواء لشرح المستغلق من المعاني، أو يورد إحالات مِن كُتب مؤرخين ورحالة ومستشرقين وغيرهم، مما يوافق ما يسرده الفقيه. والجميل هو الاستعانة بلوحات من رسم أوربيين المعروفين بـ Les oriontalistes.
تميزت هذه الفترة الزمنية بانطلاق الاحتكاك المباشر بالغرب، الذي كان قد تقدم في مختلف المجالات، وبالتالي شرع في التوسع الاستعماري.. يحضر في الرواية/ المخطوط كذلك آراء الفقهاء في ما يحصل، وخاصة منعهم لأي شيء قادم من الغرب (الكافر). وصف حالة التردي التي يعيشها المسلمون.
وبذلك يبدو كأن الفقيهَ العبدي صاحب المخطوط شاهدٌ على عصره، ورغم ميله في الأخير إلى التعامل مع الغرب ومخترعاته، فإنه لا يختلف كثيرا عن فقهاء ونخب تلك المرحلة. خاصة تعامله مع النساء، فخلال رحلته تزوج أو اتخذ امرأة (أو يزيد) للمتعة أكثر من مرة، ثم يتركها ويرحل..
ويبدو أن الكاتب عبد الرحيم لحبيبي أراد، من خلال هذه الرواية، أن يحدد موقفه من كيفية التعامل مع الحضارة. كيف ذلك؟
من خلال الفقيه العبدي الذي عاد خائبا من الشرق، يتوضح كل شيء، فقد ظل يسكنه وهم "الغادة" التي يظن أنها تلهمه، وظل يعتقد أن الحل يكمن في الشرق وما يأتي من الشرق (هناك من مازال إلى الآن يعتقد ذلك!)، لهذا قاسى محنا ليتأكد بنفسه، فماذا وجد؟
هذه الفقرة تغني عن البيان:
"تم جولت كثيرا ورافقت الدراويش والمجاورين، جلست أمام العلماء والفقهاء والمحدثين والمشايخ، فما رأيت ولا سمعت منهم إلا كلاما معادا مكرورا، ينقل فيه الأخير عن الأول، والخلف عن السلف، محفوظا مسنودا، يَؤُمهم أكبر سنا وأغزرهم ذقنا وأكبرهم زبيبة وأطولهم سبحة، غلب عليهم التشدد..." (الصفحة 205)، وهو يصف الوضع بالحجاز. وحالة التردي الشاملة وبداية بيع الأوطان عن طريق "اتفاقيات" مع الإنجليز.
وكان هذا الفقيه قد أسس في طريقه إمارة "داعشية" في السودان، لكن أميرها تحوّل إلى طاغية، وكان مصمما على هلاك هذا الفقيه نفسه لولا هروبه تحت جنح الظلام. مما يعني استحالة إنشاء دولة على تلك الطريقة.
لقد هاجر الفقيه العبدي إلى الشرق تيمنا بتجربة عبد الله بن ياسين والمهدي بن تومرت. لكن خاب مسعاه كما أكد ذلك بنفسه في نهاية الرواية/ المخطوط. وقد اكتشف حالة من الانحطاط على طول الخريطة والأرض التي عبرها. حتى أن أي معتوه يسير عريانا ويهذي يعتبره الناس والفقيهُ صاحبَ كرامات نظرا للضلال الذي عمّ! (الصفحة 258).
وتنتهي الرواية على وقع احتلال إنجلترا وفرنسا وإسبانيا لأجزاء من شمال إفريقيا، من مصر إلى تطوان وسبتة.
عمل مضن ومتعب بعائد معرفي وثقافي ليس بالشأن الكبير. لأن الغاية أصبحت معلومة منذ أزيد من قرن، لكن يبقى التاريخ عبرة.