الغد 24 خبر الغد تقرأه اليوم

حوحو تكتب من بيروت لـ"الغد 24": 33 سنة مرت على إطلاق رصاصة الغدر على أعظم فنان فلسطيني ناجي العلي

 
"حنظلة" بوصلة تتحدى على الدوام كواتم الصوت
الإعلامية اللبنانية الزميلة فاطمة حوحو تكتب لـ"الغد 24":
هذه بعض ذكرياتي مع ناجي العلي في بيروت
 
 
من بيروت: فاطمة حوحو
 
يعد رسام الكاريكاتور الفنان ناجي العلي، واحدا من أولئك الأشخاص الذين كانوا يصنعون الدهشة كل يوم، ببساطة رسوماته التي روت لنا قصة فلسطين والاحتلال والأنظمة العربية، وكشفت لنا أسباب هزائمنا المرة، وأيقظت فينا حس الغضب والمواجهة للحفاظ على ما تبقى من كرامة إنسانية، تداس يوميا بالفقر وبالقتل والتعذيب والسجن، وبكسر الأقلام أو اغتيال الأحلام.
ناجي هو أحد ثلاث شخصيات أدبية وثقافية وفنية كبرى، أثرت في المحيط العربي وأبقت القضية حية، إلى جانب الشاعر محمود درويش والأديب غسان كنفاني. فهذا الثلاثي المبدع لم يضل الطريق يوما، كما لم يضيع البوصلة. كانوا ضمير الثورة وإن صدمتهم حينا، أو لفظتهم أحيانا، أو دللتهم بعض الأوقات. لكن يبقى لناجي رواية مختلفة ومعاناة كانت محفورة في خديه وعلى تعابير وجهه القمحي الحزين، في عينين صغيرتين تلمعان دوما بدمعة لا تسقط وإذا ما سقطت لا تخجل من رائيها، وبابتسامة ندية، قلما كانت ترسم على الشفتين المزمومتين، اللتين رغم التوتر تخرج الكلمات منهما بهدوء، لتكشف عن عمق المعاناة الداخلية، معاناة الفلسطينيين الذين هجروا من بلادهم قسرا، على أمل العودة، لكن أعمارهم انطوت في صحارى ومدن عربية وعالمية، وهم يصرخون تارة، ويقاتلون تارة ويبدعون، لكنهم لم يصلوا إلى وطنهم، وماتوا وحيدين في بلاد غريبة.
 
موت في المنافي الباردة
ظل ناجي العلي هو نفسه الطفل "حنظلة"، رمزه الفني في رسومه، ابن العشر سنوات الذي يدير ظهره للعالم، مكتف اليدين، لا يفتحهما إلا ليمسك حجرا بوجه المحتل، أو يقدم وردة "لبيروت" الصامدة، أو ليساعد في إنقاذ جريح، أو ينام بين ذراعي "فاطمة".. المرأة الفلسطينية. بقيت عينه على قريته "الشجرة"، ولذلك كان حين يوقع كتب رسوماته للأصدقاء لا يضع إلا عبارة واحدة: "الأشجار تموت واقفة". وهي عبارة بمثابة رسالة عدم استسلام، ورفض الانحناء مهما كثرت العواصف.
يعرف عن نفسه، يقول: "اسمي ناجي العلي. ولدت حيث ولد المسيح، بين طبريا والناصرة، في قرية "الشجرة" بالجليل الشمالي، أخرجوني من هناك بعد عشر سنوات، في 1948، إلى مخيم عين الحلوة في لبنان، أذكر هذه السنوات العشر أكثر مما أذكره من بقية عمري، أعرف العشب والحجر والظل والنور، لا تزال ثابتة في محجر العين كأنها حفرت حفراً لم يخرجها كل ما رأيته بعد ذلك".
في 22 يوليوز من العام 1987 اغتيل ناجي العلي في لندن، لم يصمد جسده النحيل طويلا، ولم تنجح العلاجات في تخليصه من رصاص موت محتم، أراده القاتل وأصاب الرأس، فغاب عن الحياة بعد شهر وأسبوع في 29 غشت، ليدفن في البلاد الباردة، وهو الذي أوصى بدفنه في مخيم عين الحلوة في جنوب لبنان، حيث هجرته الأولى وبيته العائلي الأول الذي لم يغادره رغم القصف والحرب، وظل يعود إليه مخاطرا تحت غارات الطيران الإسرائيلي حينا، وحواجز أجهزة المخابرات والميليشيات اللبنانية التي أشعلت الحرب الأهلية على خلفية الوجود الفلسطيني في لبنان.
 
صديقي.. ناجي الحزين
عندما تعرفت إلى ناجي العلي لأول مرة، كان ذلك بعيد حصار بيروت، وخلال مرحلة احتلالها من قبل الإسرائيليين في صيف العام 1982، كنت أزوره في "السفير" مع صديقة إيطالية مصورة فوتوغرافية، تم طردها لاحقا من لبنان إلى قبرص، على خلفية كونها كانت أول من صور مجزرة "صبرا وشاتيلا"، ونشرت الصور المرعبة آنذاك الصحف العالمية، إذ كانت تعمل في "وكالة أسوشيتد برس"، وهي التي حملت القضية الفلسطينية في كل أعمالها، باولا كروتشياتي الصديقة المقربة لمناضلي "الجبهة الديموقراطية لتحرير فلسطين". كنا سوية نراجع التطورات الأمنية والسياسية في مكتبه الصغير الفوضوي في جريدة "السفير"، وبينما يغرق ناجي في الحديث مع باولا، عن زوجها الصديق الصحافي ميشيل نمري (اغتالته المخابرات السورية لاحقا في اليونان في 5 غشت عام 1985 بسبب تناوله النظام السوري في مجلة "النشرة" التي كان يصدرها آنذاك، كونه لم يهادن أي نظام عربي)، يستفسر عن الأماكن الجديدة التي صورتها باولا بنتيجة القصف الإسرائيلي في مناطق تواجد الفلسطينيين، في الفاكهاني والمخيمات المحيطة، كانت عيناي تجولان على سطح المكتب.. اسكتشات كاريكاتورات بعضها نشر وآخر لم ينشر، لا ألوان على الصفحات البيضاء، فقط جلال الأسود، وحنظلة الموجود دائما، ذلكم الطفل الشاهد. كان ناجي يدرك أن هذه المرة ستكون رحلة الفلسطينيين مختلفة. لأن الحرب الإسرائيلية شرسة، والفلسطينيون وحيدون يصرخون في البيداء العربية، والعالم العربي أصم، والدول الصديقة غارقة في قياس المصالح والمساومات، كان الوجع قاتلا. كان دوما يسألني أيضا عن أوضاع "جبهة المقاومة الوطنية اللبنانية" بعد انطلاقتها إثر احتلال أول عاصمة عربية، وعن العمليات المشتركة بين الحزب "الشيوعي" و"منظمة العمل الشيوعي" و"الجبهة الشعبية". ويأمل بنتائج طيبة تشبه نبل وإيمان أولئك الشباب الذين تعرف إلى بعضهم صدفة في إحدى البنايات التي لجأ اليها بشكل سري، حيث كانت هناك شقق ومنازل سرية تعود لقياديين من "الشعبية"، يتنقل ناجي بينها متخفيا عن أنظار ملاحقيه. يمتلئ ناجي بحماسة مفاجأة تذيب ذلك القلق الذي كان يعيشه وهو ملاحق من قبل مخابرات الجيش اللبناني في عهد الرئيس أمين الجميل بهدف ترحيله من لبنان.
لم يكن ناجي ابن المخيم الفلسطيني يحب الظهور والدخول إلى عالم الشهرة، إذ كان يفضل أن يبقى في الظل يعمل ويرسم ولا يتخاذل، لا يقدم أوراق اعتماد لفصيل أو زعيم، قلة من الأصدقاء تكفي ليتناقش معها ويستمتع بقضاء وقت مع من يشبهونه في النقاوة، صديق الفقراء والمناضلين الحقيقيين وقد أصبحوا قلة.
وفي قوله معرفا عن نفسه خير دليل "لست مهرجاً، ولست شاعر قبيلة. إنني أطرد عن قلبي مهمة لا تلبث أن تعود، ولكنها تكفي لتمنحني مبرراً لأن أحيا. أنا متهم بالانحياز، وهي تهمة لا أنفيها. أنا لست محايداً، أنا منحاز لمن هم "تحت".. الذين يرزحون تحت نير الأكاذيب، وأطنان التضليلات. وصخور القهر والنهب وأحجار السجون والمعتقلات. أنا منحاز لمن ينامون في مصر بين قبور الموتى، ولمن يقضون لياليهم في لبنان يشحذون السلاح الذي سيستخرجون به شمس الصباح، ولمن يقرأون كتاب الوطن في المخيمات".
حنظلة أولا ودائما
في جلسات حلوة كنا نقتنص فرصة توفر التيار الكهربائي عند اصدقاء لبنانيين نسهر في منازلهم خفية، حوارات غنية لا تنتهي، يدخن أكثر مما يشرب، يحكي لنا عن فلسطين لنتعلق نحن أكثر بالقضية، بينما نحكي نحن عن رسوماته الرائعة وتأثيراتها على الجميع، على من يقاوم ومن يصمد، ومن يقاتل ومن يحلم. شغله الشاغل كان متابعة الأحداث، يرسم أكثر من اسكتش، إلى أن يقرر.. هذا هو للنشر غدا. كم من رسومات كنا نسترق النظر إليها، بعضها كان مؤلما إلى حد تشعر أن سكينا انغرست في قلبك، وبعضها كان يبشر، وإن كان نادرا في زمن الخيبات، نحمل جريدة "السفير" من الخلف دوما، أي بدءا من الصفحة الأخيرة التي ينشر فيها كاريكاتير ناجي، نصرخ لأن رِجْل "حنظلة" تحركت، أو هو أدار وجهه، نرى الحجر في يده فيأخذنا الأمل إلى فضاء الانتصارات، وعندما نراه يمسك وردة ليقدمها إلى بيروت الصامدة في وجه القصف الإسرائيلي نبتسم للحب.
يوضح رئيس تحرير جريدة "السفير" طلال سلمان: "كان يرسم ليلاً. وأحيانا ينتج لوحتين أو أكثر، في حين أن المطلوب لوحة واحدة يتصدرها "حنظلة"، شخصيته المبتكرة التي سوف تخلّده. وكثيراً ما مزقت افتتاحيتي بعد مشاهدة لوحاته، فقد لخص ما أردت قوله، كتبه بخطين أو ثلاثة خطوط، إلى جانب «حنظلة» الذي جسد القضية والمقاومة، ودان الانحراف والخيانة ومشتري الدماء بالذهب، وبياعي الأرض المقدسة بثلاث من الفضة ولقب "السيد الرئيس".
 
خسارة بيروت
خسرت بيروت بالطبع ناجي العلي عندما تم الضغط عليه والملاحقات لإخراجه من لبنان، ولم يكن بامكان أي كان تغيير الواقع الصعب، فخروج المقاومة الفلسطينية من بيروت أبعد فلسطين.. فابتعد ناجي في عام 1983 وقرر السفر إلى الكويت للعمل في جريدة "القبس". عامان قضاهما ناجي في الكويت لامس رأس الجميع، فضاقت كل الرؤوس به ذرعا، وبدأت تصل إليه تهديدات ورسائل تطلب منه أن يخفف من نقده. لكنه كعادته لم يستجب. تحول إلى شخص غير مرغوب فيه في الكويت فاختار لندن التي وصلها في أكتوبر من عام 1985 وظل يرسم لـ "القبس".
 
رصاصة واحدة لأكثر من جهة
اكتنف الغموض اغتيال ناجي العلي ففي اغتياله هناك جهات مسؤولة مسؤولية مباشرة الأولى الموساد الإسرائيلي، والثانية منظمة التحرير الفلسطينية، كونه رسم بعض الرسومات التي تمس القيادات آنذاك. أما قضية الاغتيال، إن جاز التعبير، قد تنتهي بفرضية التصفية، أو بعض الأنظمة العربية، بسبب انتقاده اللاذع لهم. أطلق شاب مجهول النار عليه. ووفق التحقيقات البريطانية فإن شاب يدعى بشار سمارة، وهو على ما يبدو الاسم الحركي لبشار الذي كان منتسبا إلى منظمة التحرير الفلسطينية، لكنه كان موظفا لدى جهاز الموساد الإسرائيلي، فأصابه تحت عينه اليمنى، ومكث في غيبوبة إلى أن رحل فدفن في لندن.
ذهب ناجي الى حياة أخرى. لم ير وجهة للنصر، رغم ادعاءات القديسين، ليست فلسطين اليوم ما كان يريده ناجي العلي، فهو كان يعلم تماما "اللي بدو يكتب لفلسطين، واللي بدو يرسم لفلسطين، بدو يعرف حالو: ميت. أنا مش ممكن أتخلى عن مبادئي ولو على قطع رقبتي".
كل يوم وأنتم طيبون
في العام 1996 كنت أعمل في الكويت، اتصلت بي علا، ابنة الكاتبة ليلى العثمان، قالت لي: خالد العلي يبحث عنك، لديه هدية لك، من والده الفنان ناجي العلي، أنا ذاهبة إلى لندن، سألتقي به وأحضرها لك. الهدية كانت صورة حنظلة وعليها أسماء زملاء صحافيين في لبنان، أغلبهم في جريدة "السفير"، أصدقاء ناجي اللبنانيين، كتب عليها "كل يوم وأنتم طيبون"، رسمها ناجي إلى كل واحد منا بنسخة أصلية بيده لم تطبع، وقد حضر خالد إلى بيروت وقدمها إلى جميع الزملاء، لكني أنا لم أكن في بيروت، فأعادها إلى لندن، وأحضرتها لي لاحقا علا. بعد أن كتبت رسالة إلى خالد الذي كنت أعرفه يافعا في بيروت، كثير الأسئلة عن المستقبل والمصير كما بدا خلال مراسلته لي. عندما ذهب ناجي إلى الكويت غصبا، بعد أن فقد أي حماية له ممكنة في ظل الأوضاع التي كانت تعيشها بيروت، وبعد رحيل الفلسطينيين ودخول القوات المتعددة الجنسيات.
 
لم يكن هناك أحد
كان الخطر يتربص به وبعائلته، قاوم كثيرا ولم يتنازل، لكن حتى طلال سلمان في "السفير" لم يعد باستطاعته إعطائه أي ضمانة. قبل ساعات قليلة من سفره كنت معه ومع عائلته: وداد وأسامة وليال وخالد، يتم تحضير حقائب الرحيل إلى الكويت، في ذلك المنزل قرب المدينة الرياضية، وسط الخراب الذي كان في المنطقة نتيجة الحرب الإسرائيلية، لم يكن هناك أحد سوانا مع شاب فلسطيني، لم أعد أذكر من هو، يهتم بإيصال ناجي وعائلته إلى المطار آمنا، كان وداعا مؤلما.
أينما رحل ناجي كان هو، هو نفسه فنان يختزن إبداعا ورهافة حس وصلابة، وما زلت والكثيرون مثلي حتى اليوم كلما أضعت البوصلة أنظر إلى "حنظلة"، وأتأكد أنه مهما كثرت كواتم الصوت، فلا تستطيع محو الحقيقة أو مسح الصورة، ولذلك كان الجميع يكن له الحب والاحترام، ويتمنى لروحه العداله ولفلسطينه الحرية في كل العالم.
رحل ناجي وترك لنا "حنظلة" ضميره وضميرنا المستتر، الأيقونة الثورية في أعناق المناضلين، هو الفنان المميز الذي جعل من فن الكارتير فنا شعبيا قريبا إلى الناس لأنه عبر عن هواجسهم، وشخصيات رسوماته كانت من بينهم فإضافة إلى "حنظلة" الطفل الفلسطيني الفقير الحافي، هناك فاطمة والدته وزوجها اللذان يقولان ما لا يقال للطغمة العربية الغنية أثرياء النفط، جنود الاحتلال الإسرائيلي وشارونييه، والقيادات الغارقة في الفساد، والحكام العرب النائمين في متعهم وجمع الثروات.