الغد 24 خبر الغد تقرأه اليوم

الغائب الحاضر فينا.. الإعلامي والحقوقي أحمد سيبابة يغادر الحياة

 
أحمد نشاطي
 
بكثير من الحزن والأسى لحد الصدمة، تلقينا نبأ رحيل الإعلامي والحقوقي والمعتقل السياسي السابق أحمد سيبابة، الذي لفظ أنفاسه الأخيرة، صباح اليوم الثلاثاء 3 غشت 2021،  بعد معاناة مريرة مع المرض...
 
في الفترة الأخيرة، تكالب عليه المرض، واشتدت عليه الآلام، فنُقل بشكل ملح للاستشفاء، وأُجريت له عدة فحوصات لإخضاعه إلى عملية جراحية على الجهاز الهضمي... كان جميع أحبّائه ينتظرون عودته معافىً طيبا ليطل عليهم بملامحه البريئة الوديعة، وتنفرج شفتاه عن ابتسامة خفيفة لا تكاد تفارقه...
 
الرفيق أحمد سيبابة، عضو حزب النهج الديمقراطي، والناشط في الجمعية المغربية لحقوق الإنسان في الدارالبيضاء، والإعلامي، الذي مرّ من عدد من المنابر الصحفية الورقية، يكفي أن تجالسه للحظات حتى تستأنس به، ثم تحبه، وتُكبر فيه شخصيته المتخلّقة، وكنتُ، بين الحين والآخر، عندما تسنح الفرصة، أستفز فيه ذاكرة الحكي، فيفيض ويستفيض، عن حركية النضال اليساري، زمن المطاردات والملاحقات والاعتقالات والمحاكمات، التي كان السي أحمد أحد ضحاياها، وقضى ما تيّسر من تعذيب وتنكيل، ثم ما تيسّر من سنوات "عيش" وراء القضبان...
 
أحيانا أناديه "السيبابة"، وأحيانا أستطيب مناداته، بكثير من المودة، بـ"السي أحمد"، كان هناك أحمدان، كنت دائما أبحث عن استقدامهما في أي منبر أكون فيه، "كنتقلق عليهم أحيانا وكنسخط"، ولكن لا أغضب عليهما أبدا، ولا أتخلى، عندما كانت تظلم الأشياء في وجهي، كان يكفي النظر إليهما، إلى ملامحهما المعاندة، لترمي كل شيء وراء ظهرك، وتستعيد عُنفوانَك وأَمَلك، وتواصل الطريق، وكان السيبابة أحد الأحمدين، وكان يتوهّج عندما يستطيب المقام فينشرح في الحكي، وعندما تتملكني متعة حكيه، كنت أستفزه تحبّباً: "أنت ربّك ما مُصحح ما والو، أنت حاكي، خصّك تخرّجْ المبدع فيك، وتكتبْ وتْأرّخْ لأحداث ووجوه عامة ولحالات من المغرب العميق"... كنت أخطّط لتحويل موقعه إلى آخر مثيل للـ"أحمد" الأول، لكن الوقت أدركتنا وغدرتنا ولم تسعفنا إلى ذلك...

كنت أرى فيه مشروع كاتب قصة ورواية، وسأضع، أدناه، نموذجا من كتابات السيبابة ليدرك من يقرأه أن ظروفا مركبة لم تسعفه ليكون من هو: الكاتب أحمد سيبابة...

عندما يندلع، أحيانا، حديث عن النهج الديمقراطي، الذي كنا نحتكّ به أحيانا، خصوصا أن قيادية كانت تصرّف أحقادها السياسية ضد شخص بتخوين مجموعة إعلامية خلال مواكبة أحداث الريف، فيما كنا الأكثر دفاعا عن معتقلي الريف، والأكثر تضامنا مع معتقلي الريف، والسيبابة كان شاهدا صدوقا، مثلما كان مناضلا خلوقا، فيدافع عن حزبه، ويشرح ويوضح، بكثير من الأدب، وفي الوقت نفسه بكثير من عناده الجميل، إذ يمكنك أن تختلف مع السيبابة بكثير من الرحابة لا علاقة لها بأي تعصب ولا شيطنة، وعندما ينتقل النقاش إلى وضع مجتعي ما، يتحدث السيبابة بتأنّ، مستحضرا مواقف وتوجهات مُعبَّراً عنها في أدبيات النهج، فالنهج موشوم فيه، من القضايا الكبرى، إلى بعض التفاصيل الصغرى، من قبيل وقوفه المستميت إلى جانب زميلتنا سلوى بنعمر، رفيقته في حزب النهج الديمقراطي، خصوصا لما انتقلت زميلتي ورفيقته إلى الشمال، وفي كل وقت مناسب، يتحدث بالتنويه عن سلوى، وكان حديثه يلقى هوىً محبّب في داخلي، لأن سلوى بنعمر، التي أعزها أكثر، واحدة من نماذج البهاء والصدق والعمق والصفاء زميلةً ورفيقةً، في نازلة تكشف معدنَ العزيزِ أحمد السيبابة الخلوق والوفي...

هناك ميزة أخرى للسيبابة، قد لا يعرفها فيه كثيرون، ففوق أنه قارئ نهم للأخبار والتحليلات والآراء والمواقف، فإنه كان مترجما جيدا للنصوص السياسية، كنا نتواطأ معا على نصٍّ ما يعكس وجهة نظر ماركسية حول قضية ما، فينكب عليه وينجز ترجمة مقنعة جدا للنص، تساعده في ذلك الخلفية اليسارية المشتركة...

وكان الأحمدان معا يشتركان في نهم القراءة والتقاط النصوص الجيدة الجديرة بالاشتغال عليها وتقديمها للقارئ المغربي...

وخارج ذلك، بصم أحمد سيبابة على حضور ثابت في مختلف الحركات الاجتماعية والحقوقية والسياسية، المحلية أو الوطنية، بالخصوص تلك التي تشهدها فضاءات مدينة الدارالبيضاء، لا يمكن أن تكون هناك وقفة أو اعتصام أو مسيرة أو ندوة ولا تجد فيها السيبابة، السي أحمد الذي تحدّر من أعماق الشعب قبل 61 سنة، بقي ابن الشعب، ومات ابن الشعب، وسيعيش فينا ابن الشعب...

كل التمنيات بالصبر والسلوان لكافة أفراد عائلة فقيدنا أحمد سيبابة وجميع رفاقه وأصدقائه، وعزاؤنا واحد...
 
♦♦♦♦

معركة الفتى الأنيق

أحمد سيبابة
 
1 استمرت حكاية تلك المعركة طويلا على الألسن، صحيح، أن السكان لم يطلقوا عليها أي اسم، لم يطلقوا عليها عام القنابل أو غير ذلك من التسميات، لكنها بقيت طرية في ذاكرتهم، يتذكرون مكانها، لم تمحه من ذاكرتهم البنايات التي نبتت في الخلاء قرب الحمّام البلدي ورمت بالحلايقية والمتسولين إلى الحافلات، ظلوا يعرفون المكان رغم اختفاء كل العلامات حوله.. سوق الكلب، المسجد القديم…
حين يتسامرون ويستنفدون الحكايات يتذكرونها، فيفتخر زوج هنية بأنه كان حاضرا، ويذكر كيف ساعد المقدم على النهوض، لكنه دفعه بقوة قائلا:
– سيرْ فحالك، واش هادي فراجة؟
وكان الأطفال، الذين يحبون التفرج على معارك الشوارع وبطولات الفتوات، يسترقون السمع، فيشعرون بأنهم أضاعوا الفرصة، فيعضون على أصابعهم من الحسرة وهم يسمعون التفاصيل.

2 على قارعة الطريق حيث تتجمع عربات الخضر والفواكه، اندلعت المشاجرة.
الشاب الأنيق ذو العضلات المفتولة، الذي كان يشتري الفواكه، تدخل لثني رجل القوات المساعدة عن مصادرة العربة، فنهره المقدم، ثم تحول النقاش بينهما إلى سباب، وفي لمح البصر انهالت اللكمات.
باللكمة الأولى، سقط المقدم عرّوب، الذي كان يزور كثيرا الزوهرة، الأرملة سليطة اللسان، وبرزت بطنه السمينة من تحت القميص.
باللكمة الثانية، سقط المخزني العملاق، الذي كان يستعمل عصاه بمهارة عجيبة.
ثم سقط المخزني الملقب بالمنحوس، وانقلبت عربة الفواكه، وتخاطف الأطفال الأشقياء حبات البرتقال والتفاح.
هاجم الباعة الشاب بموازين الحديد ورموه بالبطاطس، ساعدهم بعض المتجمّعين حول العربات، وبمساعدة المخزني العملاق سيطروا على الشاب، واستطاعوا بعد مشقة أن يُركبوه في سيارة القوات المساعدة.

3 شجعتني النظرات المتلهفة في عيون أقراني، زودتني بما يكفي من الغرور، نفخت صدري كما كنت أفعل حين أبارز الولد علي المطرقة، طلبت منهم السكوت والإنصات.
الآن أنا سيد الحكاية، سأحكيها للأطفال كما أحب، بروية، بتأن، فقرة فقرة، قطعة قطعة، فلا أحد منهم يعلم أني لم أر في الحقيقة الشجار، لقد تجمع الحشد بسرعة وحجب عني الرؤية، ودسست قامتي الصغيرة بين الأرجل ورأيت المقدم يتوسد الرصيف وبطنه السمينة بارزة من القميص. هذا كل ما رأيت، ولكن أنا الوحيد الذي رأى، ولا يستطيعون الشك أو الاحتجاج، لأني سأتوقف عن الحكي.. ماذا سيفعلون حينها بحكاية غير مكتملة؟
لم يحب الأطفال نهاية الحكاية، أشفقوا على الشاب الذي ركب لاراف عنوة، رموني بنظرة الريبة، ثم التفتوا إلى بعضهم، وانصرفوا خائبين.
لكن.. ماذا أستطيع أن أفعل لهم، فهذا شاب أنيق يمشي على قدمين، وليس الفارس زورو صاحب الأنشوطة الذي رأوه على شاشة الصيدلية.

4 ما لا يعرف الأطفال هواة معارك الشوارع، ما لم يعرف إلا قلة من الكبار، أنه بعد مساومات وتدخلات، أُطلق سراح ولد لكاملة الذي كان يمارس الملاكمة بفرنسا، وأنه اختار قطع عطلته والرجوع فورا إلى المهجر...