الغد 24 خبر الغد تقرأه اليوم

د. ناصر بوشيبة.. اغتراف العلم والعمل ولو في الصين

 
حميد أحمد المرادي
 
 
في حضرة د. ناصر بوشيبة
 
في سنة 2016، كانت زيارتي الأولى للصين، وكانت زيارة مليئة بالمفاجآت والإنجازات وقد خصصت لذلك كتيبا صغيرا من 100 صفحة بعنوان "الرحلة المرادية إلى بيكين الصين الشعبية".
 
أخذ د. ناصر بوشيبة يحكي عن حبه للرباط، وأحسست لحظتها بأنه مسكون بها، وبشوارعها وبأحيائها وبضواحيها. حب الرباط، لا يعفيه من حبه للوطن، فالوطنية تبدأ وتنتهي بحب عذري للأمكنة وللناس
 
كانت المناسبة حضور الدورة 23 من المعرض الدولي للكتاب والنشر، وكانت مناسبة من نتائجها، على "الأقل"، أن مستثمرين من القطاع الخاص مدعوما من القطاع العام الصيني، استثمروا بالمغرب وبالرباط تحديدا، وفي مجال النشر والمكتبات.
في 2018، كان المغرب ضيف الشرف بالدورة 24 للمعرض الدولي للكتاب والنشر ببكين، وقد كنت حضرت ضمن وفد الناشرين الخمسة المغاربة، الذين تم اختيارهم لتمثيل المغرب.
في اليوم الثاني حضر إلى رواق المغرب، شاب مغربي في الأربعينيات من العمر، كان صحبة مجموعة من الصينيين، وبدأوا في زيارة تلقائية لرفوف الكتب المعروضة بالرواق.
تقدمت إليه بخطى متأنية، حتى لا أشوّش عليهم، مباشرة بعد التحية، تملكني إحساس بأنني أعرفه منذ زمن، منفتح، خفيف الظل، منطلق السريرة، وحددنا موعدا خاصا للقاء في المساء.
 
الرباط العاصمة، الحاضرة الجميلة بالصين
 
كانت أول أسئلة د. ناصر بوشيبة ونحن نسلم على بعضنا في لقاء المساء، أين يوجد مقر "دار التوحيدي"؟ أخبرته طبعا أن مقر دار النشر بالرباط، فتهللت ملامحه، ليجيبني بأنه ازداد بالرباط، سنة 1976، واستمعت له وكأنه يرحل بي حينها، عبر المكان والزمان في تاريخي الخاص.
 
حصل د. ناصر بوشيبة حصل على الباكالوريا بالرباط، ثم على الإجازة في اللغة الصينية، تخصص "التجارة الصينية"، وعلى ماجيستير تخصص "موارد بشرية"، ودكتوراه الدولة في العلوم القانونية وكل هذه الشهادات بجامعة سون يات سين الصينية
 
وتعود علاقتي بالرباط، المدينة الأعز إلى قلبي والأقرب إلى وجداني، إلى سنة 1976، حيث انتقلت من ثانوية ابن سليمان الروداني بتارودانت إلى ثانوية مولاي يوسف بالرباط، بعد نصيحة من ناظر الثانوية المرحوم ذ. إبراهيم الراضي، على إثر إضرابات تلك السنة بالثانويات، وكنت أدرس آنذاك بالسنة النهائية من الباكالوريا.
أخذ د. ناصر بوشيبة يحكي عن حبه للرباط، وأحسست لحظتها بأنه مسكون بها، وبشوارعها وبأحيائها وبضواحيها.
كانت الجلسة، في مجملها استحضارا للرباط في رمزيتها وجمالها ودلالتها الثقافية والسياسية كذلك.
حب الرباط، لا يعفيه من حبه للوطن، فالوطنية تبدأ وتنتهي بحب عذري للأمكنة وللناس.
 
الدراسة، اغترفوا العلم ولو في الصين
 
لكنني سأعلم كذلك، في تلك الجلسة الحميمة الأولى، أن د. ناصر بوشيبة حصل على الباكالوريا بالرباط، وعلى الإجازة في اللغة الصينية بمدرسة اللغة الصينية، تخصص "التجارة الصينية"، وعلى ماجيستير من معهد التجارة تخصص "موارد بشرية"، ودكتوراه الدولة من مدرسة الحكم، في العلوم القانونية تخصص "النظريات السياسية ونماذج التنمية".
وكل هذه الشهادات بجامعة سون يات سين بمدينة كانتون، جهة كواندونغ.
 
الكتابة والكتاب
 
ولأن المقام هو المعرض الدولي للكتاب، فقد علمت أن د. ناصر بوشيبة قد ألف كتبا باللغة الصينية، وهي تستعمل لتدريس الأعمال في الجامعات الصينية، وأنه على وشك الانتهاء من تحرير كتاب حول "العلاقات المغربية الصينية 1958-2018"، وباللغة الصينية - من فضلكم -، وستتم ترجمتها إلى اللغات، منها العربية والفرنسية، وستصدر بالصين وبالمغرب، وهذا العمل كان نتاج بحث مضنٍ، دام لسنوات طوال في وثائق وأرشيفات صينية ومغربية، مع تدقيق في مصداقية المصادر، وكل ذلك بمنهجية علمية موافق عليها من الصينيين أنفسهم.
 
يعتبر نفسه باحثا وطنيا، بمعنى أن كل المشاريع التي يطلقها تهدف إلى خدمة الوطن الأم، المغرب، وهو مقتنع أن وطننا المغرب لا يمكن بناؤه إلا بواسطة العلم والعمل الإبداعي والانفتاح على الثقافات المختلفة ومنها أساسا الثقافة الصينية
 
ومن بين النتائج المهمة لهذا البحث في الأرشيف الصيني الرسمي، مقالات تعبر عن دعم الصين الشعبية لمجهودات المملكة المغربية في استرجاع وحدتها الترابية في الأقاليم الجنوبية، وكذا الدور الرئيسي للمغرب في الدفاع عن القضية الفلسطينية، وكذلك الدور الريادي للمغرب في تحقيق نهضة إفريقية في عهد الملك محمد السادس.
وهنا لن تفوتني الفرصة، دون الإشارة إلى ظاهرة أضحت سائدة في مجتمعنا، وسط "نخبة الفرص"، وهي الكتابة "تحت الطلب" في كل المواضيع والقضايا، ولو عبر تجميع المعلومات من مواقع الإنترنيت، متناسين بأن محركات البحث بإمكانها فضح عمليات القرصنة، التي يمارسها البعض. وللأسف هذا ما مارسه بعض الأدعياء حول هذا موضوع العلاقات المغربية الصينية.
 
عشاء في خيمة جانكيزخان
 
تلك الجلسة الحميمة، كانت بداية لتعاوننا المثمر والذي انطلق منذ غشت 2018، سنتان فقط، كانتا مليئتين بالإنجازات في مجال التعاون المغربي الصيني، سنأتي عليها في ما بعد.
وكانت البداية بدعوة عشاء في ضيافة مجموعة صينية، تعمل في قطاع الكتاب والنشر، وهي مؤسسة النشر والإعلام بالجنوب الصيني (SPM).
وكانت المفاجأة الجميلة خلال تلك الدعوة، هو العشاء على طريقة جانكيزخان، حيث ولجنا خيمة على شاكلة الخيم التي كان يستعملها المغول في محطاتهم باعتبارهم شعوبا رُحّلا.
وخلال ذلك العشاء تم الاتفاق على توقيع اتفاقية شراكة لإصدار النسخة العربية من كتاب "العلاقات المغربية الصينية 1958-2018" بين مجموعة النشر والإعلام الجنوب بالصين ودار نشر مغربية.
وخلال مدة المعرض، ورغم الانشغالات الكثيرة لكل منا، لم نتوقف عن تثمين الشراكات وترتيب اللقاءات بين دور النشر المغربية ودور النشر الصينية، رغم ما اعترى المشاركة المغربية من مثبطات، بحكم سيادة الارتجالية وعدم التخطيط والتشاور بين الأطراف المشاركة، من وزارة وناشرين وتمثيلية دبلوماسية، وهذا الأمر للأسف، يسود أغلب المشاركات المغربية في التظاهرات الدولية.
 
على خطى الحزام والطريق
 
يعتبر د. ناصر بوشيبة نفسه "باحثا حرا ومستقلا"، وتتجلى حريته من خلال اعتماده على تمويله الخاص لكل المشاريع، وتتركز أبحاثه الرئيسية في العلاقات الإفريقية الصينية، محاربة الفقر، الاستثمارات الصينية في إفريقيا، والتي يعطي انطلاقتها، وباعتماده على نفسه في التخطيط والتحضير وعلى إمكانياته الخاصة في الإنجاز، حفاظا على استقلاله الفكري والمهني والشخصي، وحماية لحريته العلمية والعملية.
 
كما أنه يعتبر نفسه باحثا وطنيا، بمعنى أن كل المشاريع التي يطلقها تهدف إلى خدمة الوطن الأم، الذي هو المغرب، ويمارس قناعة مفادها أن وطننا المغرب لا يمكن بناؤه إلا بواسطة العلم والعمل الإبداعي والانفتاح على الثقافات المختلفة ومنها أساسا، الثقافة الصينية.
كما أنه لا يتعامل مع مفهوم التنمية في بعدها المنحصر في الاقتصادي، بل يعتبر أن التنمية تشمل خصوصا وأساسا الجوانب الاجتماعية والثقافية والقيمية.
ولأجل الوصول إلى كل هذه الأهداف، يرى أنه لابد من فتح مسارات متعددة الأبعاد عبر خلق مشاتل لبلورة مشاريع منتجة ومؤثرة في حياة الناس الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والقيمية...
لذلك لم يتوقف عن إطلاق، والمساعدة على إطلاق، شراكات ومشروعات مست التعاونيات المغربية العاملة في الهامش، للولوج بمنتجاتها للسوق الصينية عبر عدة برامج آخرها بشراكة مع مؤسسة نساء من أجل إفريقيا (Fundation Mujeres Por Africa)، والتي يوجد مقرها بمدينة الناظور، عبر عدة مشاريع.
ولم ينحصر العمل بالمغرب، حيث أسس "جمعية التعاون الإفريقي الصيني من أجل التنمية" منذ سنة 2017 والتي تهدف إلى تقديم رؤية إفريقية للتعاون الإفريقي الصيني تعتمد على نقل المعرفة والتكنلوجيا الجديدة عبر الشباب الإفريقي. وفي ظرف وجيز، أصبحت هذه الجمعية واحدة من أهم المؤسسات المحاورة لمراكز البحوث ووسائل الإعلام الرسمية في الصين.
ولا يفوتني أن أذكر، بأن د. ناصر بوشيبة هو من كان له شرف تقديم، وباللغة الصينية، وأمام الملك محمد السادس، اتفاقيات الشراكة المغربية الصينية سنة 2016 ببكين.
وعلى نفس المنوال، عمل د. ناصر بوشيبة، وتجسيدا للوطنية الفاعلة والمنتجة، على استقطاب استثمارات مهمة بين 2016-2018 لمؤسسات صينية كبيرة في قطاعات المعادن والسياحة وتكنولوجيا تحلية المياه.
كما ساهم في تنظيم وتمويل مهرجان رأس السنة الصينية بمدينة شفشاون سنة 2019، وهي التظاهرة، التي فتحت آفاقا مهمة للسياحة الصينية بالمغرب.
 
د. ناصر بوشيبة هو من كان له شرف تقديم، وباللغة الصينية، وأمام الملك محمد السادس، اتفاقيات الشراكة المغربية الصينية خلال الزيارة الملكية سنة 2016 لبيكين
 
ولن أنسى المبادرة التي عملنا عليها معا من أجل فتح آفاق للتعاون في مجال النشر والكتاب مع المجموعة الكبرى في جنوب الصين (SPM)، والتي انعقد على إثرها منتدى مغربي - صيني للنشر بالرباط، كان من نتائجه العديد من مشاريع الترجمة من الصينية إلى الفرنسية وإلى العربية، بالخصوص في غياب تام، للأسف، للدعم المغربي من أجل ترجمة الكتابات المغربية إلى اللغة الصينية.
كما يقوم حاليا على العمل في إنتاج عمل سينمائي حول الرحالة المغربي ابن بطوطة بشراكة مع نفس المجموعة وفاعلين مغاربة.
كما ستصدر قريبا سلسلة قصص للفتيان قبل نهاية سنة 2020، تمت ترجمتها من الصينية وبدعم صيني، عن دار التوحيدي بالرباط، وقد كان للدكتور ناصر بوشيبة القسط الأوفر في إنجاح هذا العمل عبر تفعيل الشراكة وعبر المساهمة في الترجمة والإعداد للنشر.
هل بهذا قد أعطيت د. ناصر بوشيبة حقه في نحت بروفايله؟ بالتأكيد: لا، فشخصيا أعتبر أن د. ناصر بوشيبة من الشخصيات التي تنشر حولها الأمل والتفاؤل، والحلم بالأحسن.
فهو لا يتوقف عن السفر والخلق والإبداع العملي في كل المجالات، في أفق واضح المعالم للمساهمة في تقدم الوطن نحو الأفضل، رغم سيادة عقليات ولوبيات الافتراس والاستحواذ والإقصاء.
صديقي د. ناصر بوشيبة، أتمنى لك حظا سعيدا، أنا الذي أكبرك بما يقارب العشرين سنة، لقد خَبَّرتُ الوطن في شروط مختلفة، لكن المهمة صديقي ليست بالسهلة.
وفي نفس الآن، إرادتك قوية وشروط العمل والإبداع، أفضل بالمغرب، مما كانت عليه قبل عشرين سنة.
لدي أمل في نجاح أمثالك، أنا الذي عشت وسأموت وكلي أمل.