الغد 24 خبر الغد تقرأه اليوم

بمناسبة ذكرى اغتيال أشهر مغني أمازيغي.. الأغاني القاتلة.. من فكتور خارا إلى معطوب الونّاس

 
من بيروت: فاطمة حوحو
 
 
لم تكن عملية اغتيال الفنان الجزائري معطوب الوناس، في 25 يونيو من العام 1998، هي الأولى من نوعها في العالم العربي والإسلامي، ولا الأخيرة، فهناك قوى عاثت قتلا وإجراما، وعملت طوال سنوات على نشر مشروعها الظلامي سرا وعلنا، دون أن تواجَه. حاربت كل صاحب رأي أو فكر تنويري، وعملت على تصفية الكبار لإخلاء الساحة لها ونشر ثقافة التخلف والتوجه بالمجتمع نحو الخرافات والغيبيات، عبر اعتماد سياسة التخويف والإرهاب لتكميم الأفواه، ومن ثم التصفيات الجسدية لمن كان صوته مرفوعا. وطرحت نفسها بديلا للفكر العقلاني الديمقراطي المتقدم، فلم تواجه بإرهابها فقط من كتب أو جاهر بموقف أو سعى لاجتهاد، بل أيضا من صدح صوته بأغنية ترددت وصارت نشيدا للحرية.
قُتل الوناس في ضواحي مدينته تيزي أوزو بـ 78 رصاصة اخترقت جسده على يد مجموعة من الجماعة الإسلامية المسلحة
عرف العالم المطرب التشيلي فيكتور خارا الذي قتل بـ 44 طلقة نارية اخترقت جسده في "الستاد" الكبير لسانتياغو في 16 شتنبر عام 1973، عندما استولى الجنرال بينوشيه على السلطة في انقلاب عسكري دموي، أطاح بحكومة سلفادور ألليندي المنتخبة، كرمز نضالي كبير. ويمكن القول إن الوناس أيضا تحول إلى رمز مشابه، فقد قتل في ضواحي مدينته تيزي أوزو بـ 78 رصاصة اخترقت جسده، على يد مجموعة من "الجماعة الإسلامية المسلحة" (الجيا)، كما أعلنت السلطات الجزائرية في روايتها المرفوضة من العائلة، بعد عدة محاولات فاشلة جرت لاغتياله على خلفية مواقفه المعارضة للنظام وللإسلاميين، وكونه حاملا للمسألة الأمازيغية، ومدافعا عن العلمنة والتنوع وحرية الانتماء.
 
حناجر دامية غصت بالنغمة النازفة
 
قبل اغتيال الوناس، عرفت الجزائر اغتيال مغني الراي الشاب حسني، في 29 شتنبر 1994، ووجه الاتهام إلى "الجماعة" أيضا، المنظمة التي سعت لإسقاط الحكومة الجزائرية وإقامة دولة إسلامية، واعتمدت العنف المسلح منذ عام 1992، كرد فعل على إلغاء نتائج الدورة الأولى من الانتخابات التشريعية، التي جرت في شهر دجنبر من عام 1991، وأعلنت عن فوز جبهة الإنقاذ الإسلامية.
بالمقابل، كان هناك من قال إن الاغتيال تم على يد جهة رسمية، بغرض تعميم حالة الخوف والفوضى، من أجل تقوية قبضة العسكر. وبعده تم اغتيال المغني الشاب عزيز في 20 شتنبر عام 1996، مما دفع بالعديد من المطربين الجزائريين إلى الهجرة نحو الخارج، خصوصا فرنسا.
 
عمليات الاغتيال لم ينج منها المطرب الفلسطيني شفيق كبها الملقب بـ"مغني الثورة الفلسطينية"، الذي قتل بعد إطلاق النار عليه من قبل مسلحين كانوا على دراجة نارية في بلدة أم الفحم في 23 أكتوبر 2013.
 
ومن ضحايا الاغتيالات في لبنان المغني نور طوقان، عضو الحزب الشيوعي اللبناني، الذي اغتيل في منزله في الضاحية الجنوبية في بيروت، على يد عناصر من "حزب الله"، في 24 فبراير 1986 بكاتم للصوت، وهو مقعد نتيجة إصابته برصاصة خلال معارك الحرب الأهلية في لبنان عام 1975، أمام والدته وأخيه. وكان عازفا ماهرا على آلة العود، يتنقل في المعارك على كرسيه ليغني الثورة والحرية ومقاومة الاحتلال الإسرائيلي.
 
ومن ضحايا الإرهاب أيضا، نقيب الفنانين العراقيين المطرب داوود القيسي، الذي قتل يوم السابع عشر من ماي 2003، أي بعد الاحتلال الأمريكي للعراق بشهر واحد، حيث قامت مجموعة مجهولة باقتحام منزله وفتحت عليه نيران أسلحتها فقتلته في الحال ولاذت بالفرار، وتردد أن الجريمة نفذت عقابا له على أغانيه وأناشيده لـ"حزب البعث" والرئيس السابق صدام حسين، إلا أن آخرين أشاروا إلى أن تصفيته جاءت لأسباب شخصية، وعلى خلفية نشاطه الحزبي في معركة القادسية ضد إيران.
 
أيضا في باكستان، قُتل أمجد صبري السنة الماضية (2016) في 22 يونيو في مدينة كراتشي، وهو أحد أشهر المنشدين الصوفيين، حيث أطلق عليه النار مسلحون ينتمون إلى مجموعة منشقة عن "طالبان" باكستان، والتي اتهمت المغدور بازدراء الدين والصوفية، وهي ممارسة دينية إسلامية تتسم بالتسامح والزهد بالحياة ومغرياتها، ولها ملايين الأتباع في باكستان وخارجها، لكن في السنوات الأخيرة تعرضت إلى هجمات المتشددين الإسلاميين.
 
وتبقى علامة في هذا الزمن، هو المغني السوري إبراهيم قاشوش الذي اقتلعت حنجرته، وهو أحد الناشطين في "الثورة السورية"، الذي قتل في 4 يوليوز 2011، أثناء الاحتجاجات الشعبية في قيادة المظاهرات، إذ كان القاشوش يؤلف الأغاني ويغنيها في ساحة العاصي بحماه، وفيها شعارات مناوئة للحكومة وللرئيس السوري بشار الأسد شخصياً ولشقيقه ماهر وحزب "البعث" الحاكم، ومن بينها أنشودة (يلا ارحل يا بشار). ففي خضم الحملة الأمنية التي نفذها الجيش السوري في أعقاب جمعة ارحل في فاتح يوليوز 2011، والتي احتشد فيها زهاء نصف مليون متظاهر في ساحة العاصي في حماة مطالبين بإسقاط النظام، وأقيل على إثرها محافظ المدينة، ظفر به من يطلق عليهم "الشبيحة" من قوات الأمن السورية، فذبحوه واقتلعوا حنجرته ورموه في نهر العاصي، فيما تذكر الرواية الرسمية أن مجهولين قتلوه لأنه مخبر ثم مثلوا بجثته وشيعوه على أنه شهيد لتأجيج الاحتجاجات.
 
الوناس.. أكبر من مطرب
 
بالعودة إلى الوناس، فإن كل من عرفه يؤكد أنه أصبح رمزا في الحركة الأمازيغية بالجزائر، فقد أثار الجدل الكبير في حياته وفي رحيله، من خلال تحميل فنه المطالب الثقافية والسياسية لقبايل الأمازيغ، لاسيما بعد إجراءات التعريب الرسمية.
عُرف الوناس بمواقفه المعارضة للنظام وللإسلاميين وكان حاملا للمسألة الأمازيغية ومدافعا عن العلمنة والتنوع وحرية الانتماء
كتب الوناس سيرته الذاتية في كتاب "المتمرد" باللغة الفرنسية: "كنا نعتقد أن فظائع الحرب انتهت مع الاستقلال، وهو ما كذبته الأحداث. فبعد سنة فقط اندلعت أعمال عنف بمنطقتنا. انتفض ضباط الولاية الثالثة ضد ابن بله واشتدت المواجهات وتعرضت قرانا لتنكيل فاق ما شهدته على يد المستعمر، أسفر عن مقتل مائة شخص".
 
تأثر الوناس بالأغاني الشعبية القبائلية وبصوت أمه الرخيم، بدأ بالغناء في الأعراس والحفلات الشعبية. كان يكتب أغانيه ويلحنها بنفسه وشكلت عودة والده المهاجر في فرنسا إلى الوطن حاملاً إليه قيثارة أجمل هديه تلقاها في حياته، على ما حكى في كتاب سيرته الصادر عن دار نشر باريسية.
 
في مارس 1980، منعت قوات الأمن الجزائرية ندوة ثقافية كان سيحاضر فيها الكاتب الفرنكفوني مولود معمري حول "الشعر في منطقه القبائل قديماً"، فكانت تلك القشة التي قصمت ظهر البعير، فألهبت فتيل المواجهة الشعبية المباشرة بين الشباب الأمازيغي الغاضب والسلطة. وفي 20 أبريل غصت شوارع منطقة القبايل وعاصمتها تيزي وزو بأكبر تظاهرة شعبية منذ استقلال الجزائر، فواجهتها الشرطة بالرصاص الحي، وسقط عشرات القتلى والجرحى في ما عرف بـ"الربيع الأمازيغي"، الذي تابعه الوناس من باريس، وغنى هناك بالبذلة العسكرية للقول إنه في المعركة، وكان سبيله لدعم الانتفاضة أغنيته "حزن واد عيسى"، (بلدة بمنطقة القبايل) التي ذاع صيتها وخلّدت ذكرى الضحايا.
 
"رسالة مفتوحة" على قبر
 
كان السبب المباشر لاغتياله تسجيله في أواخر ماي 1998 في الجزائر أسطوانة ضمت إحدى عشرة أغنية، بينها "رسالة مفتوحة"، اقتبس فيها المغني النشيد الوطني الجزائري، ويدين التقارب بين السلطات وبعض الإسلاميين. صدرت في 5 يوليوز بمناسبة عيد الاستقلال، التاريخ الذي كان سيبدأ فيه تطبيق التعريب في الجزائر. لاحقا صدرت الأسطوانة على تسجيل كاسيت صمم غلافه رسام الكاريكاتور الجزائري المشهور علي ديليم، يُصوّر العلم الجزائري ملطخاً بالدم ومعطوب ينظر إلى البعيد يحيط به ممثلون عن الحكم من جهة، ووجوه بعض الإسلاميين من جهة أخرى. وجاء في نص التقديم الذي وضعه في 16 يونيو 1998:
 
"أليس فاضحاً أن نحظر إنكار الهوية الأمازيغية من دون أن ترتفع أي شكوى؟
ألا يوجد سوى عدد قليل جداً من العقول العادلة والنيّرة والمستعدة لمجابهة الإبادة الدستورية للهوية الأمازيغية؟".
 
وفي 25 يونيو 1998، في حدود الساعة الواحدة والنصف بعد الظهر، قُتل الوناس في كمين نُصب له على الطريق الولائي الرقم 100 الذي يربط بين منطقة بني دوالة وتيزي أوزو.
كان السبب المباشر لاغتياله تسجيله أغنية "رسالة مفتوحة" اقتبس فيها النشيد الوطني الجزائري لإدانة التقارب بين السلطات وبعض الإسلاميين
لاشك أن عمليات الاغتيال أيا كان فاعلها، لتغييب الآخر وإلغاء دوره ومصادرة حقوقه أمر مستنكر، والواضح أنها تعتمد على الغدر وإخفاء معالم الجريمة، إذ أن معظمها لم يتم الكشف عن مرتكبها الحقيقي، وأن الأجهزة الأمنية لا تنجح في تفكيك لغزها أو القبض على المحترفين الذين ينفذون المهام، حتى أنه من الممكن أن يمشي القاتل في جنازة القتيل، متجاوزا القانون والشرع، لا بل متجاوزا إنسانيته، وهذا ما تقوم به القوى الإرهابية المسلحة التي تحاول فرض شرعيتها وقوانينها بالسيف والدم، وشعارها القضاء على حق الحياة لمن يخالفها الرأي.